قبل حوالي سنتين، بدأ الحديث عن مدينة تكنولوجية بطنجة ستنجز باستثمارات صينية هائلة تصل إلى 10 ملايير دولار. وتم الإعلان عن الحدث قبل سنة في حضور الملك محمد السادس. ولكن سرعان ما تبين أن هذا المشروع الخيالي قد ولد مترنحا.. “تيل كيل” بحثت عن أسباب تعثر هذه المدينة التكنولوجية…
“عين دالية، هي شنغاي المغرب مستقبلا”. هكذا وصفت إحدى اليوميات مشروع مدينة محمد السادس لطنجة التكنولوجية (طنجة تيك) في 2016. وقد بلغ الحماس إذاك درجة تلاشى معها الحذر المعمول به في هذه المناسبات، وراح الجميع يوردون أرقام مذهلة: 100 ألف منصب شغل، 200 مصنع، 10 ملايير دولار من الاستثمارات، ومساهمة قوية للشركات الصينية. أما التمويل فسيتكلف به ثلاثي كان يبدو متفقا على كل شيء: BMCE Bank، جهة طنجة- تطوان- الحسيمة، التي ستوفر الوعاء العقاري، والمجموعة الصينية “هايتي” التي تم معها التوقيع على مذكرة تفاهم في ماي 2016 إبان زيارة الملك إلى الصين. وكان يفترض في هذه المجموعة نفسها استثمار مليار دولار في “المنطقة الصناعية”.
سنة بعد ذلك، ترأس الملك بفصر مرشان بطنجة حفل تقديم “مدينة محمد السادس التكنولوجية بطنجة” (طنجة تيك). وتنبأ عثمان بنجلون قائلا “إنها الولادة الجديدة لطريق الحرير(…) هذه الطريق ستمر الآن عبر طنجة، وانطلاقا من هذه الأرض المباركة ستتجه إلى القارة الإفريقية وأوروبا وأمريكا”. وبنبرة تنضح يقينا، أعلن وزير الصناعة والتجارة، مولاي حفيظ العلمي، بدوره أن “الأشغال ستنطلق في النصف الثاني من 2017”.
إلا أنه، وبعد عام فقط، لا شيء سار كما كان متوقعا. فقد اختفت مجموعة “هايتي”، كما أن الموقع الذي سيحتضن مبدئيا “طنجة تيك” أصبح غير صالح بسبب الفيضانات، وصار من اللازم القيام بسلسلة جديدة من الدراسات، بل إن المتدخلين في المشروع صاروا يتقاذفون هذه الكرة الحارقة.
اختفاء الصينيين
كان مشروع “طنجة تيك” برمته مرتبطا منذ 2016 بمجموعة “هايتي”، التي تم تقديمها على أنها عملاق يجسد إنجازا كبيرا في تاريخ العلاقات المغربية الصينية. ولكن الجميع اليوم يتفادون ذكر اسمها، ولا يذكره المستثمرون المغاربة سوى على مضض. “قبل شهرين، أخبرنا إلياس العماري، خلال اجتماع بطنجة، أن مجموعو ‘هايتي’ لم تعد طرفا في المشروع، وأنه يعتزم مقاضاتها”، يقول أحد المستثمرين(…).
والواقع أن وثائق تأسيس الشركة المكلفة بإنجاز المشروع والموجودة لدى المحكمة التجارية بالدار البيضاء، تقول إن “شركة تهيئة مدينة محمد السادس التكنولوجية بطنجة” (طنجة تيك) لها مساهمان فقط: BMCE Bank وجهة طنجة- تطوان- الحسيمة.
جنون العظمة
بعد نشر موقع “لو ديسك” لتحقيق في يوليوز 2017، يظهر فيه أن مجموعة “هايتي” الصينية عملاق ولكن بأقدام طينية، بذل كل من عثمان بنجلون، ومولاي حفيظ العلمي، وإلياس العماري، جهودا حثيثة للتأكيد على أن المشروع ليس وهما، ونظموا عددا من الزيارات الميدانية والندوات الصحافية. “أنا من الذين يرون النصف المملوء من الكأس” قال بنجلون بنبرة فلسفية، ولكنها لم تكن كافية لطمأنة المرتابين، خاصة أولئك الذين يشككون في قدرة المجموعة الصينية على إنجاز المشروع.
ويقول مصدر مطلع على الملف منذ مفاوضات 2016 “منذ عامين، وأنا أقول لهم إن ‘هايتي’ لا تستطيع مواكبة المشروع”. من جهته يقول مصدر حضر حفل توقيع مذكرة التفاهم مع المجموعة الصينية في 2016، إن هذه الأخيرة تنشط في مجال “صيانة الطيران، وهذا القطاع لا علاقة له مع المناطق الصناعية. فلكي تكون ‘هايتي’ قادرة على تنفيذ هذا المشروع، عليها أن تكون مالكة لعشر مناطق صناعية على الأقل تتراوح مساحتها بين 50 و100 هكتار. هذا فقط ما يخول لها التوفر على التجربة اللازمة، والبرمجيات الضرورية لتدبير هذه المناطق، فضلا عن الموارد البشرية المتخصصة.. وهايتي لا تتوفر على أي شيء من كل هذا”. من ناحيته يوضح خبير في المجال أن مصنع المجموعة الصينية “الخاص بصيانة الطائرات في مدينة ‘شينغدو’ تكلفت ببنائه شركة أخرى. فكيف يمكن لـ’هايتي’ المساهمة في بناء 200 مصنع بالمغرب، وهي ليست متخصصة في المجال”. والواقع أن المجموعة الصينية، وكما يظهر على موقعها الإلكتروني، تنشط في مجال بعيد عن صناعة السيارات، والاتصالات، والطاقات المتجددة، أو العقار، وهي القطاعات المعنية بمشروع “طنجة تيك”. ومن بين العشرات من فروع “هايتي” توجد شركة وحيدة هي المدرجة في بورصة “شينزين”، وهي “غواتشين”، وأداؤها ليس مغريا بالمرة. “الشركة حققت أرباحا لا تتجاوز 11 مليون دولار، وهذا يعتبر مستوى متواضعا جدا في الصين” يقول خبير مالي صيني.
باختصار إذن: “العملاق” الذي يعول عليها لخلق مدينة تضم 300 ألف نسمة، ليس له الأكتاف الكافية للنهوض بهذه المهمة. فالشركة الصينية “لا تملك الخبرة الكافية ولا الموارد المالية الضرورية، بل إنها لم تحصل على الضوء الأخضر من الحكومة الإقليمية أو المركزية بالصين” يوضح مصدر شارك في المفاوضات مع “هايتي”. وحسب معلومات حصلت عليها “تيل كيل”، فإن المساهمين في المجموعة لم يتم إخبارهم المشروع، وهذا ما تسبب في انسحابها. “ما إن علموا بتوقيع رئيس المجموعة ‘لي بيو’ بالمغرب، حتى أبدى المساهمون رفضهم، فقيل لهم لا شيء تم بعد”، يقول مصدر من الصين كان قريبا من المشروع منذ البداية.
مشاكل ومشاكل ثم مشاكل
بعد عامين من الإعلانات والأرقام الخيالية، ها هو مشروع “طنجة تيك” يجد نفسه أمام الواقع العنيد. فبعد التراجع الغامض لـ”هايتي”، جاء دور “ديكاستال”، الرائد العالمي في صناعة إطارات السيارات من الألمنيوم. كان يفترض أن تشرع هذه المجموعة الصينية في أشغال إنجاز مصنع لها بطنجة قبل شهرين، لكنكها غيرت رأيها وتعتزم التوجه إلى مدينة أخرى. والسبب: موقع “طنجة تيك” مهدد بالفيضانات بسبب واد المهرهر.
والواقع أن خطر الفيضانات يهدد بتجميد المشروع برمته. فحسب المعلومات التي استقتها “تيل كيل”، من الضروري بناء حاجز لحماية الوحدات الصناعية المستقبلية من الفيضانات. وقد دق مكتب للدراسات الهيدروليكية ناقوس الخطر: بدون حاجز الحماية، سيتوجب رفع مستوى بناء المصانع بـ4 إلى 4.5 أمتار. “هذه التكاليف الإضافية ثقيلة وقد تنفر المستثمرين” يقول أحد الفاعلين في قطاع البناء والأشغال العمومية.
“لا مسؤول.. الجميع مذنبون”
“هناك فرق كبير بين إجراء محادثة وبين القيام باستثمار” هذا ما كتبته، غداة الإعلان عن مشروع المدينة الذكية، ديبورا براوتيغام، مديرة “مبادرة الأبحاث الإفريقية الصينية” (CARI) بجامعة “هوبكينس” الأمريكية، والمتخصصة في العلاقات الاقتصادية بين الصين وإفريقيا. وتوضح أستاذة الاقتصاد السياسي في تصريح لـ”تيل كيل” أنه في كل الحالات سيتعين على الحكومة المغربية الانضمام إلى المساهمين في شركة التهئية المكلفة بتنفيذ المشروع، كما أنها تتوقع أن ينخفض حجم الاستثمار إلى أقل من 10 ملايير دولار التي تم الحديث عنها في بداية الأمر.
إن مشروع “طنجة تيك” بدا مترنحا منذ اليوم الأول، وهو ضحية التسرع والوعود غير الواقعية بالمرة. ويقول مصدر له خبرة طويلة في العلاقات المغربية الصينية “لما نختار مستثمرا صينيا يرغب في الاستقرار بإفريقيا، فيجب أولا أن تكون لديه الخبرة الكافية في المجال الذي يريد الاستثمار فيه، ويتعين أن تكون لديه القدرة على تعبئة الموارد المالية، ويتوجب بالخصوص أن يكون شريكا للدولة الصينية. ولا واحد من هذه المعايير المهمة في العلاقات مع الصين تم احترامها”(…).
طبعا لا يفيد في شيء البحث عن المسؤول عن هذه الوضعية. فكل واحد يلقي بالكرة إلى حجر الأطراف الأخرى. “أنا قمت بمهمتي المتمثلة في توفير الوعاء العقاري، فقد تمت تعبئة الـ500 هكتار الضرورية للمرحلة الأولى من المشروع(…) ولا أريد أن اهتم بالباقي، لا أريد تحمل أي مسؤولية” يقول إلياس العماري، الذي ينفي مسؤوليته عن أي تأخير في إنجاز “طنجة تيك”. ويضيف رئيس جهة طنجة- تطوان- الحسمية، الذي كان قبل أشهر فقط يصرح بأبوته للمشروع، أنه “ما دام رئيس الجهة ليس عضوا في اللجنة الجهوية للاستثمار، ولا تستدعيني هذه اللجنة بالتالي إلى اجتماعاتها، فلماذا سأتحمل المسؤولية”، مشددا على أن “مولاي حفيظ العلمي هو الذي يعرفهم”. نفس الأمر يقوله العماري بخصوص انسحاب “ديكاستال”: “مولاي حفيظ العلمي هو من وقع مع ديكاستال والآخرين أمام جلالة الملك”.
باختصار، لم يعد الزعيم السابق لحزب الأصالة والمعاصرة، يرغب في الإقرار بتحمله جانبا من المسؤولية: “ليس من المفترض أن أكون على علم بأي شيء، فلست رئيسا لشركة تهيئة طنجة تيك ولا مسيرا بها، ولست عضوا في اللجنة المحلية أو الجهوية أو الوطنية للاستثمار. دوري كرئيس للجهة هو إقناع المستثمرين”. إنه يذهب إلى حد إنكار الواقع. فهو واحد من مسيري شركة التهيئة. ولكنه يحاول الخروج من التناقض الذي سقط فيه بمراوغة غريبة. “أنا لا أحضر فيها كإلياس العماري بل أحضر باسم الجهة. لا أريد أن أكون مسيرا، لا أريد أن أكذب” يقول قبل أن يضيف أنه اختار شخصا ليحضر عوضا عنه في اجتماعات الشركة. أما عثمان بنجلون، رئيس شركة التهئية فيوجهنا إلى مولاي حفيظ العلمي. من جهته يقول مسؤول سام بوزارة الصناعة “فلنتفق، إنه مشروع خاص في الأصل، يحظى بمواكبة الدولة”.
بتصرف عن “تيل كيل”
16/07/2018