قيس مرزوق الورياشي*
توفي خوسي ساراماغو، المفكر والروائي البرتغالي الحائز على جائزة نوبل للآداب سنة 1998 بجزيرة لانثاروتي قبالة الشواطئ المغربية يوم 18 يونيو 2010. خوسي ساراماغو، روائي الفقراء والطبقة العاملة كما عرف عنه، كان أقرب إلى هموم المغاربة وهموم الفلسطينيين وهموم الأفارقة وهموم الأمريكولاتينيين بالرغم من جنسيته وثقافته البرتغالية، المنتمية إلى الجماعة الأروبية.
بين ساراماغو والناظور ومهرجانها، أو بالأحرى مهرجاناتها، قصة غريبة يجهلها الكثير. ولعل أحسن تكريم ما بعد الموت لروح هذا المبدع العالمي القريب منا جدا هو سرد هذه القصة التي تجمع بين ساراماغو والناظور ومهرجانها، كما جمعت بين أحلام مشروع مجهض وشخصيات ندر بها الزمان كمحمد شكري ومحمود درويش.
يحكى أنه كان لمدينة الناظور مهرجاناً. في أواخر السبعينات، عندما كانت الناظور قرية تبحث عن ذاتها، أرادت أن تنافس مراكش، ليس في تاريخها ولا في اجتذابها لسياح يبحثون عن كل ما هو غريب (ضوضاء، أكل إتني، سمراوات جميلات، موسيقى بربرية أصيلة…) ولكن في مهرجانها الوحيد، حين لم يكن للمغرب غير مهرجانين: مهرجان مراكش للفنون الشعبية (المدعوم من طرف الدولة) ومهرجان الأغنية الشعبية (المدعوم من طرف تويزة جماعية اسمها “تاسنتيت” أي الانطلاقة بالعربية).
مهرجان الناظور للأغنية الشعبية ولد صيف 1978 كتعبير عن أحلام جيل بكامله، جيل السبعينات. حلم ممزوج بيقظة الوعي بالذات عبر عنه بشكل رائع وبسيط ميمون الوليد في أغنيته الشهيرة “مين نعنا نشَين؟” (من نحن؟).
عاش المهرجان خمس سنوات واختفى تماماً مثل واد ابتلعته أعماق الأرض. فكرة المهرجان كانت بسيطة ورائعة معاً. بسيطة مثل بساطة الناس الذين تبنونها. رائعة لأنها كانت تحمل أكثر من رسالة: المهرجان كعرس شعبي، وكسائر الأعراس الشعبية، فهو تعبير عن تعاقد اجتماعي حيث تكون المساهمة (المادية والرمزية) جماعية، والمسؤولية جماعية أيضاً. إنه قبل أن يكون وعاءً للثقافة فهو في حده ثقافة وفلسفة معاً. إنه ثقافة لأنه يعبر عن وعي الناس بمحيطهم من خلال تعاملهم مع الموروث الثقافي المباشر والبعيد. كما أنه فلسفة لأنه ينصب على المستقبل من خلال تفكيك كنهه. هكذا يمكن أن نتلمس تدريجياً بأن المهرجان لا يمكن أن يكون قراراً إدارياً، أو رغبة شخص مولع بحب الظهور أو “حب الحلاوة”. فمن مهرجان النيروز الفارسي (عيد الربيع) إلى الفيستيبال اللاتيني إلى أورار الأمازيغي، هناك قاسم مشترك: الفرحة والفرجة المعممة كفضاء للتعاقد الاجتماعي. أورار الأمازيغي كان احتفالاً بالخصوبة الواهبة للحياة: خصوبة الأرض التي تهبنا الحبوب، وخصوبة المرأة التي تهبنا النساء والرجال معاً. لا غرابة إذن أن يقرن أورار كمهرجان شعبي بفصل الصيف حيث الموسيقى والرقصات الجماعية ما هي إلا تعبير عن هذه الخصوبة الواهبة للحياة.
جربت الناظور مهرجانها في خمس سنوات من مهرجان الأغنية الشعبية. تحول المهرجان إلى مدرسة ثورت المفهوم التقليدي لأورار وتجاوزت بذلك عتبة لالاً بويا وأحيذوس فتفتحت عشرات المواهب أعادت الاعتبار إلى الفلاح الريفي وثقافته. غير أن الطبيعة التجزيئية للمجتمع الريفي، والخليط التجريبي الغريب لتحضر هذا المجتمع، ونظرة “الآخر” المريبة دائماً، جعلت المهرجان يذوب في فوضى الأحلام المجهضة باستمرار.
ولأن الثقافة، خلافاً للسياسة، تنبعث دوماً تماماً كطائر الفينق، سرعان ما ستتدفق شرارة جديدة لتصنع تجربة أخرى أكثر نضجاً، ربما، لكنها أقل التصاقاً بأرضية المجتمع، ذلك لأن الأكثر نضجاً ليس دائماً الأكثر تجدراً. وكانت تجربة إيرارورار في طبعتين: طبعة 1993 وطبعة 1995.
هذه التجربة، خلافاً للأولى، تأتي في وقت بدأ فيها التعاقد الاجتماعي يتفتت بسرعة متتاليات هندسية. فأحداث 1984 أقبر تجربة وأحلام السبعينات إلى الأبد. والمشهد السياسي، الذي مثل الدور القيادي فيما مضى، أصبح هو نفسه مصاباً بالتهاب التجزيئية العمياء. وفي ظل سيطرة هاجس أمن غير محدد المعالم، تحولت الناظور إلى فوضى بدائية حيث تعششت الأحياء الهامشية العشوائية وسالت على فضاءات المدينة مثل القطران. وكان على المدينة انتظار قدوم قائد طراكس صارم لوقف مؤقت للرغبة الجامحة في الفوضى.
مهرجان إيرارورار مثل نقلة نوعية في طرح فلسفة المهرجان: من مهرجان إثبات الذات إلى مهرجان تسويق الذات. إثبات الذات موجه للداخل: الوعي بالشخصية الذاتية وقدراتها. تسويق الذات مرتبط بالخارج: لا داخل بدون خارج، كما أن “من لا بر له، لا بحر له”، يقول محمود درويش الذي سيدخل على الخط بعد قليل.
مهرجان إيرارورار أراد أن يتموقع في محيط جديد متحول ويتجاوز تجزيئية المجتمع الريفي المنغلق (المنغلق في ثقافته، في اقتصاده، في سياسته). أراد أن يصل داخل الأمازيغية بخارجها. أن يصل الذات المبتورة والمتوحشة بقيم الحداثة والأخلاق المبنية على التعدد والتسامح والحرية والإبداع.
لكل مجتمع محيط مباشر، كما أن له محيطاً قريباً وبعيداً. فإضافة إلى فقرات المهرجان الفنية (موسيقى، مسرح، سينما، تشكيل…) تميز المهرجان برسالة ثقافية رائعة تمثلت في فكرة “ضيف المهرجان”. وضيف المهرجان أريد منه أن يكون قنطرة بين ريف ما يزال يبحث عن ذاته: ريف موغل في محلية متصلبة المفاصل، وريف مرشح للاندماج في إقليم دولي متعدد يتداخل فيه ما هو إفريقي وما هو عربي إسلامي وما هو أوربي غربي.
في طبعته الأولى، كان لقاء إيرارورار مع محمد شكري. اللقاء لم يكن عادياً: محمد شكري الذي عانق العالم بهمومه التحتأرضية والتحتإنسانية، يعانق لأول مرة الدرب الذي رأى فيه النور وغادره منذ سن السابعة. محمد شكري، بحضوره الجسدي والرمزي في إيرارورار، قلص المسافات: المسافة بين طنجة دولية وريف عميق فقد حتى طعم الحلم، كما المسافة بين ثقافة العرض والنخوة البدائية لمجتمع محافظ مهدد بالاندثار وثقافة التشرد والضياع بين الكلاب التائهة والضباع الجائعة في طنجة محلية موغلة في محليتها. محمد شكري وطأ أرض الريف سهلاً ودخلها أهلاً. لم يفطن أحد أنه لم يدافع عن قضية وطنية أو ثورية، ولم يتخندق مع الفلاحين الفقراء ولا مع العمال المضطهدين. لم يفطن أحد إلى أنه كان يكتب بلغة غير لغة أهل الريف، لغة أصبحت حلبة صراع بين ماض وحاضر، بين مصلح وثائر، بين ظلامي ومستنير. كما أن لا أحد فطن إلى أن محمد شكري لم يكن يحلم بلغة وثقافة أصحاب “أزول”. بالرغم من ذلك تحركت فطرية أهل الريف واستقبل بحرارة لأنه كان “واحداً منهم” كما يقال.
كان واحداً منهم بالرغم من كونه ابناً عاقاً. فالإبن الذي خرج من رحم ريف محافظ حتى أقصى درجات التطرف تمرد على كل أنواع الطابوهات ومن ضمنها طابو اللغة شكلاً ومضموناً. ولأنه كان عظيماً (عظيماً بخرقه للطابوهات) فقد استطاع أن يرقى بمحلية الريف ومحلية طنجة إلى مقام الإبداعات الإنسانية المتجاوزة لكل الحدود. محمد شكري كان رسالة المهرجان الأولى.
في طبعة إيرارورار الثانية اقترح المنظمون أسماء ثلاثة لاختيار ضيف المهرجان: المهدي المنجرة، خوان غويتيصولو ومحمود درويش. كان النقاش حاداً بين ذوات تنتمي إلى مجتمع اعتاد عدم التوافق إذ العناد هو سيد الموقف. رُفض المنجرة لأسباب إيديولوجية (البعض انتقد قربه المزعوم من التوجه الأصولي)، ورُفض غويتيصولو لأسباب مرتبطة بثقافة الريفي المحافظ حتى النخاع. وبقي في حلبة الصراع محمود درويش وحيداً، دون أن يدري أنه موضوع صراع من أجل فك معادلة ريف متوغل في محليته وآخر يريد الانخراط في زمن جديد.
وقع في الأخير شبه إجماع على محمود درويش ولم يبق صامداً ضده إلا أحد المحسوبين على التيار المناهض لما يسمى ب”العروبية”. فمحمد درويش في نظره “عروبي” لا علاقة له لا بالمهرجان ولا بالأمازيغية التي تمثل دعامته ورسالته. أكثر من ذلك تحدى الجميع وتنبأ بفشل اللقاء المزمع تنظيمه مع الشاعر حيث قال إنه لن يحضره أكثر من عشرين شخصاً على أحسن تقدير !.
صاحب التحدي هذا هو مواطن ريفي أقل ما يمكن أن يقال عنه أنه من الطينة التي كتب عنها ويليام رايش كتيبه الشهير “استمع أيها الإنسان البسيط”، فهو يدافع عن الحداثة وفي نفس الوقت يكتب “الحروز” أو الطلاسيم للنساء المقهورات، تلك الطلاسيم التي تنتمي بالقوة إلى ذلك الفضاء “العروبي” الذي يهاجمه.
إنه بسيط حد الوضاعة لأنه بعد استماتته في رفض اقتراح محمود درويش كضيف شرف كان الأول في حجز مقعد أمامي ليستمع إلى أشعار الضيف التي ألقاها في يوم مشهود حضره زهاء ثلاثة آلاف مواطن، نصفهم تقريباً من النساء، وفي مجتمع محافظ !
قبل أن يصعد إلى المنصة لإلقاء أشعاره والتواصل مع جمهوره، كان لشاعرنا طلب: إذا كان بالإمكان فإنني أفضل أن يسبقني شاعر أمازيغي من الريف لتلاوة بعض أشعاره. – ولكنك لا تفهم الأمازيغية يا سيد درويش ! – أنت على خطإ، يجيب محاوره، فنحن الشعراء نفهم لغة الإيقاع قبل لغة الكلام ! وكان لدرويش ما أراد.
لم يسبق أن غطت وسائل الإعلام مهرجاناً شعبياً ممولاً ومنظماً ذاتياً من خلال تويزة مثلما غطت المهرجان الذي حضره محمود درويش. حتى قناة التيلفزيون البعيدة جداً عن الناظور فاجأت المنظمين بحضورها، فحضور درويش في أرض الريف لا شك أنه حدث يسترعي الانتباه. وعندما سألت الصحافة محمود درويش حول دواعي قبوله حضور مهرجان معزول في منطقة معزولة ومقصية، بالرغم من تلقيه نصيحة رئيس اتحاد كتاب المغرب آنذاك بعدم الحضور، أجاب بكل تلقائية: كنت شغوفاً بمعرفة بلاد عبد الكريم الخطابي كما أنني كنت مهتماً باكتشاف ثقافة أجهلها كلياً وهي الثقافة الأمازيغية بالريف.
وهكذا، وبسلوك متواضع لشخص عظيم، تمكن مهرجان إيرارورار في طبعته الثانية من تسويق الذات وقلب المعادلة. فذاك “العروبي” الذي يحاربه أمثال كاتب “الحروز” أعطى دفعة قوية لمهرجان نابع من محاولات شاقة ومضنية في إثبات ذات ما تزال تبحث عن نفسها، كما أعطى دفعة قوية لثقافة مضطهدة باضطهاد الفلاحين الذين ينتجونها.
تلك كانت الرسالة الثانية للمهرجان.
بعد محمود درويش فكر بعض صانعي تجربة إيرارورار الاتصال بكاتب من عيار محمود درويش ولكن بانتماء آخر. فلإن كان محمود درويش أصبح بعد إيرارورار فلسطينياً عربياً وأيضاً أمازيغياً، فإن الضيف المفترض للنسخة الثالثة التي أجهضت لم يكن غير خوسي ساراماغو، الكاتب البرتغالي الحاصل على جائزة نوبل للآداب سنة 1998.
عندما تم الاتصال بخوسي ساراماغو سنة 1994، أي سنة واحدة قبل النسخة الثانية والأخيرة لمهرجان إيرارورار، لم يكن قد حصل بعد على جائزة نوبل للآداب. تم اللقاء الأول والأخير به بلاس بالماس حيث كان يتردد كاتب هذه المقالة على جامعتها. آنذاك لم تكن فكرة استدعاء ساراماغو كضيف على مهرجان إيرارورار قد نضجت بعد، ولكن فكرة زيارة ساراماغو للريف كانت حاضرة في اللقاء.
أثناء الصراع الذي نشب بين منظمي إيرارورار حول ضيف المهرجان، اقترحت على صديقي قاضي قدور اسم ساراماغو، وكان جوابه أن فضل الاحتفاظ بهذا الإسم إلى النسخة المقبلة للمهرجان تجنباً لتعقيد الأمور المتأزمة أصلاً في فريق لا تجمع بين مكوناته إلا الجغرافيا (أو القبيلة إن صح التعبير).
لم يحضر ساراماغو أبداً إلى الناظور. ذهب المهرجان وذهب معه صديقي قدور بدون رجعة. وبعد خمسة عشر سنة يموت ساراماغو دون أن يرى الناظور التي دعاه إليها ريفي بسيط ساهم مع رفاق بسطاء في إثبات ذات داخلها جريح كما ساهم في تسويق ذات خارجها صعب المنال.
من هو يا ترى هذا الساراماغو الذي فوتت الناظور فرصة احتضانه كما فعلت مع درويش؟
إنه بكل بساطة الكاتب البرتغالي الذي نال جائزة نوبل للآداب والذي تملك شجاعة التصريح بجذور انتمائه الأمازيغي في أكبر محفل رمزي بعاصمة السويد الأروبية.
أثناء الحفل الرسمي لتسلم جائزة نوبل ألقى ساراماغو خطاباً أقرب إلى اعترافات ريفي صادق منه إلى خطاب كاتب عالمي عظيم. لقد استهل خطابه بما يلي: “الرجل الحكيم الذي عرفته طول حياتي لم يكن يعرف لا القراءة ولا الكتابة. في الرابعة فجراً، عندما يكون اليوم الجديد ما يزال يعلن عن نفسه قادماً من أرض فرنسا، ينهض من سريره الحديدي متوجهاً إلى الحقل ليرعى نصف دزينته من الخنزيرات التي كانت تؤمن غذاءه وغذاء زوجته. في هذا العوز كان يعيش جدي وجدتي من أمي. كان عيشهما يعتمد على بيع الحلاليف الصغيرة من بعد فطامها لجيرانهم في قرية الزناكة بإقليم ريباتيخو. خيرونيمو ميلرينو كان هو اسم جدي وخوسيفينا كايشينا اسم جدتي. هما معاً كانا أميين. في فصل الشتاء، عندما يشتد البرد إلى درجة أن الماء يتثلج في الجرات داخل المنزل، يذهب جدي وجدتي إلى زريبة الخنازير ويأخذان معهما الحلاليف الصغيرة ويضعانها معهما في فراشهما حتى يحميانها من مخاطر البرد القاتل… وقد يحدث أحياناً، في ليالي الصيف الحارة، بعد تناول العشاء، أن ينادي علي جدي: “خوسي، اليوم سننام معاً تحت شجرة التين خارج الدار”.
هذا الوصف الرائع لحياة الفلاحين البسطاء يعبر عن تشابه كبير بين بيئة ساراماغو الطفل وبيئة الريف البسيط التي ميزت حياة غالبية الأجيال الحالية. هناك فرقان فقط: في الريف يستبدل الحلوف بالماعز، ويستبدل ساراماغو، الذي حول تجربة شظف عيشه إلى كونية أدبية رائعة، بابن الريف الذي بقي حبيس محلية موغلة في تجزيئيتها القاتلة.
لساراماغو أزيد من ثلاثين رواية تدور كلها حول إبراز معاناة الفلاحين والعمال المضطهدين، كما تدور حول نقد الأنظمة الاستبدادية بالبرتغال ونظام الكنسية المستلب. كتابته تميل إلى لغة الفلاحين البسيطة لكن بنيتها متينة وأسلوبه ساخر تماماً مثل سخرية الريفي البسيط من القدر والمجتمع.
لكن ما يميز ساراماغو، في علاقته بالدعوة المجهضة الموجهة إليه لزيارة الناظور، هو اعترافه بدون تردد بأصوله الأمازيغية وفي محفل رهيب مثل محفل تسلم جائزة نوبل. في خطابه الذي ألقاه في هذا المحفل أشار: “… بعد مرور أعوام كثيرة، وفي محاولة كتابتي عن حياة جدي خيرونيمو وجدتي خوسيفا (…) شعرت بأنني كنت بصدد تحويل شخصيات عاشت حياتها العادية إلى شخوص أدبية، وربما فعلت ذلك على طريقتي حتى لا أنساهم، حين كنت أرسمهم وأعيد رسمهم في ذاكرتي المتحولة كمن يحاول خلق خريطة غير مستقرة لذاكرة تحدثنا عن اللاواقع الخارق للعادة للبلد الذي قررا الذهاب للعيش فيه (…) ينبغي أن يأتي يوم أحكي فيه كل هذه الأمور التي لا أهمية لها إلا بالنسبة لي. جد أمازيغي يأتي من شمال إفريقيا، وجد آخر راعي خنازير، وجدة فائقة الجمال، وأبوان قاسيان ورائعان ووردة تزين صورتهما. هل من جينيالوجيا أخرى يمكن أن تهمني سواها؟ هل من شجرة عدا هذه يمكن أن أستند إليها؟
ساراماغو البرتغالي، الأديب الكوني الحائز على جائزة نوبل للآداب، لا يتنكر لجذوره الأمازيغية، يعتز بها دون أن يلعن الغرب ويلقي به في الجحيم. تلك كانت الرسالة التي كان ينوي مهرجان إيرارورار بعثها عبره.
لم تصل الرسالة.
وبقيت الناظور تبحث عن مهرجانها. ضاع المهرجان بين من يخلط بين التنشيط الصيفي وفلسفة أعمق لمفهوم المهرجان، وبين رغبة غامضة وجامحة لأبناء فلاحين نسوا أنهم ذات يوم ناموا مع جدهم في العراء تحت شجرة التين وهم يحلمون ركوب النجوم.
مات ساراماغو دون أن يكتشف الناظور. مات دون أن يعرف أن أبناء عمومته في الريف لم يعودوا فلاحين بسطاء يرعون الماعز، بل أصبحوا، بالرغم من أميتهم المشتركة، أباطرة لتخريب الطبيعة وأباطرة لترويج المخدرات.
مات ساراماغو دون أن يعرف أن أمازيغ الريف في تحول مذهل، فلا الذات تثبت ذاتها، ولا الذات تسوق ذاتها. كل مرة تعود الناظور إلى نقطة الصفر. المجتمع المدني بالكاد يراوح مكانه، وحتى نخبة البد عجزت عن تشكيل تنظيم يجمع بين قدماء تلاميذ وتحولت المحاولة إلى مسرحية عبثية كانت نهايتها رسالة تقول: لا شيء ممكن في هذا البلد. وحتى عندما تتضافر جهود الرسميين مع جهود المدنسياسيين لخلق فرجة عابرة، تتعثر التجربة، سواء كلفت وزيرة لقيادة التجربة أم كلف موظف أو مستشار جماعي لذلك، فإن النهاية تكون: لا شيء يشجع على المضي قدماً في هذا البلد !
الناظور مدينة تبحث عن مهرجانها، تماماً كالحسيمة، لكنها في زمن تفكك المجتمع المدني وزمن عتامة المجتمع السياسي تجد نفسها عاجزة عن ابتكار منتوج ثقافي أصيل يؤصلها ويتوجه نحو المستقبل يعيد الثقة في الذات وينفتح على خارج هذه الذات.
مدينة فاس تنظم أربع مهرجانات في السنة. هذه المهرجانات تديرها كفاءات يشهد لها الجميع وأكثر من ذلك لها استقلالها الشخصي. مهرجانات فاس ليست عبئاً على ميزانية المدينة، بل إنها استثمار ذكي يجعل اقتصاد المدينة يتضاعف ويزدهر على مدى شهور. مدينة الدار البيضاء تنظم ثلاث مهرجانات. الرباط معروفة بموازينها، وطنجة بجازها، وتطوان بمهرجان السينما ومهرجان أصوات نسائية… هذه المهرجانات كلها تنظم بدون ضجيج، بدون معارضة مجتمعية وبدون قدح في الإنترنيت مثلما يقع دوماً في الناظور. لماذا؟ الشيء الأساسي في هذه المهرجانات أن فلسفتها أصيلة وتنظيمها متأصل لأن هذه المدن، ومن يتولى تدبيرها، تعي أن المهرجانات تثبت الذات في الداخل وتسوقها في الخارج.
في الناظور نفس اللعبة القديمة تتكرر. وجوه محدودة يراهن عليها المراهنون الرسميون فيقدمونهم تارة كفاعلين سياسيين وتارة كفاعلين جمعويين، وقد يصل الأمر أحياناً إلى أن يُجلسوا أميين، تمنح لهم بدون خجل صفة الأستاذ الباحث، بجانب خبراء مرموقين، في رحاب مؤتمر علمي دولي !
إن الناظور، ومعها الريف عموماً، مقبلة على تحولات كبرى. والمجتمع، التقليدي بطبعه، والتجزيئي بطبعه، لا يعي خطورة هذا التحول ولا هو معد ومستعد له. والأخطر من كل هذا أن طبيعة الممارسات السائدة الآن في ظل المجتمع الهجين، المجتمع المدنسياسي، هي ممارسات تنصب في دعم مزيد من تجزيئية المجتمع، مدعومة بذلك بخطاب إعلامي جديد هو مزيج غريب من قيم محافظة شرسة الهجوم ولغة مشوهة ومعلوميات يساء استعمالها.
أتمنى أن تكون تعثراتنا شبيهة بتعثر الحيوان، فالحيوان هو الكائن الذي لا يسقط أكثر من مرة في الحفرة الواحدة !
* أستاذ جامعي وفاعل جمعوي
16/09/2022