يُعد جامع سيدي عبد الواحد من أقدم المساجد في مدينة طرابلس اللبنانية، حيث يعود تأسيسه إلى العصر المملوكي، وهو شاهد على التواصل الثقافي والمعماري بين بلاد المغرب والمشرق الإسلامي. أسس هذا المسجد الشيخ المغربي عبد الواحد المكناسي في القرن الثامن الهجري (القرن الرابع عشر الميلادي)، وقد أصبح معلمًا دينيًا وثقافيًا يعكس التأثيرات المغربية في العمارة الإسلامية.
ارتبط تأسيس جامع سيدي عبد الواحد بالشيخ عبد الواحد المكناسي، الذي كان عالمًا ورجل دين قدم من المغرب إلى بلاد الشام خلال فترة ازدهار الدولة المملوكية. اختار الشيخ طرابلس لبناء مسجده نظرًا لمكانتها العلمية والثقافية، حيث كانت تضم العديد من المدارس والكتاتيب الإسلامية. كان المسجد منذ نشأته مركزًا للعبادة والتدريس، حيث اجتمع فيه طلاب العلم لتلقي الدروس في الفقه والحديث والتفسير، ما عزز مكانته في الحياة الدينية بالمدينة.
يتميز جامع سيدي عبد الواحد بعمارته المستوحاة من الطراز المغربي، الذي يتجلى في عناصره المختلفة، من القباب إلى الزخارف والنقوش، مما يجعله فريدًا بين المساجد اللبنانية. ومن أبرز ملامحه القبة ذات شكل مغاربي مميز، مشابه لتلك التي تزين المساجد التقليدية في المغرب والأندلس. الأقواس مزخرفة بتصاميم هندسية مستوحاة من العمارة الإسلامية في المغرب الكبير، مما يعكس الروابط الثقافية بين المشرق والمغرب. المئذنة تحمل شكلًا مربعًا، مشابهًا لمآذن المساجد الأندلسية والمغربية، وهي مزينة بنقوش هندسية بديعة تضفي عليها طابعًا فريدًا.
على مدار القرون، ظل مسجد سيدي عبد الواحد مركزًا للحياة الدينية والتعليمية في طرابلس، حيث كان العلماء يُدرّسون فيه مختلف العلوم الشرعية، كما أدى دوره في نشر الفكر الإسلامي وتعزيز التبادل الثقافي بين المغرب الكبير والمشرق. إضافةً إلى دوره الديني، فإن المسجد يعكس جزءًا من تاريخ المدينة المعماري، ويعد وجهة مهمة للباحثين في التراث الإسلامي.
يُعتبر جامع سيدي عبد الواحد معلمًا تراثيًا يجسد التفاعل الحضاري بين المشرق والمغرب، ويعكس مدى تأثير العلماء المغاربة في نشر الإسلام وثقافته خارج حدود بلادهم. ورغم مرور مئات السنين على بنائه، لا يزال المسجد قائمًا بشموخه، محافظًا على طابعه الفريد الذي يجعله أحد أروع شواهد العمارة الإسلامية في لبنان.