في خطوة تُوصف رسميًا بـ”تعزيز الوجود” في المياه القريبة من شمال إفريقيا، أطلقت البحرية الإسبانية مهمة جديدة في مضيق جبل طارق وبحر البوران عبر الزورق الحربي “سيرفيولا”، الذي أبحر يوم الخميس من قاعدته في “فيرول” شمال غرب إسبانيا. لكن خلف هذه العملية العسكرية، يلوح سؤال مشروع: هل هو مجرد تمرين روتيني في إطار الأمن البحري، أم محاولة أخرى لإعادة رسم خطوط النفوذ في مياه تعرف منذ قرون بتعقيدها الجيوسياسي؟
العملية التي تمتد حتى 20 يونيو المقبل، تُدرج ضمن ما تُسميه مدريد بـ”عمليات التواجد والمراقبة والردع”، وهي تسميات تذكرنا بإرث استعماري لم يُطوَ بعد تمامًا. من المنتظر أن يقوم الزورق بمهام تشمل “أمن الملاحة”، و”ردع التهديدات”، و”التحقق من حركة المرور البحري”. لكن يبدو أن تعريف التهديد في القاموس العسكري الإسباني قد اتسع ليشمل كل ما لا يُترجم إلى السيادة الإسبانية الكاملة في الضفة الجنوبية.
ولعل الأهم في كل هذا الاستعراض، هو القدرة المذهلة للخطاب الرسمي الإسباني على تغليف الحضور العسكري المكثف بغلاف “الطمأنينة الإقليمية”، تمامًا كما يُغلف السيف بورق هدايا في حفلة شاي. فما دامت الزوارق تحمل شعارات “الاستقرار”، فإن التحرك العسكري يصبح فجأة مشروعًا تنمويًا بأبعاد إنسانية.
الأكثر دلالة أن مهمة “سيرفيولا” تشمل المرور بجزيرة البوران وبعض المناطق القريبة من السواحل المغربية، مما يثير تساؤلات حول الغرض الحقيقي من هذا الانتشار، خاصة في ظل ما تشهده المنطقة من سباق محموم على تثبيت رموز السيادة وتعزيز النفوذ في الفضاء البحري المتوسطي.
ولأن السياسة لا تخلو من لمسة درامية، فإن “سيرفيولا” لم تأتِ وحدها إلى مياه البوران، بل تحمل معها رمزية “الحارس الأوروبي النبيل” الذي لا ينام لحراسة الضفة الأخرى، حتى وإن لم يُطلب منه ذلك. مشهد يُذكرنا بأفلام القرون الوسطى، حيث يظهر الفارس فجأة لينقذ القرية من خطر لم يره أحد.
ولإضفاء لمسة “ميدانية”، تم تعزيز طاقم “سيرفيولا” بفريق من مشاة البحرية المدربين على “الاعتراض البحري وحماية القوة”، وكأن التهديدات الأمنية تتربص في كل موجة. ويتضمن البرنامج أيضًا زيارات لموانئ مثل موتريل، بروتا ومالقة، في ما يشبه جولة استعراضية للعلم الإسباني تحت غطاء “الأمن”.
ويأتي هذا التحرك بعد أسابيع من مناورات عسكرية شملت سبتة ومليلية، في رسالة واضحة لمن يهمه الأمر: مدريد لن تكتفي بالمراقبة من بعيد. لكنها، في المقابل، تتغاضى عن حقيقة أن الأمن لا يُصنع فقط بالبارجات والزوارق، بل بالثقة والتعاون مع الجيران، لا سيما حين يكون هؤلاء الجيران شركاء استراتيجيين لا مجرد “مجال نفوذ”.
وبينما تُبدي مدريد انشغالًا بـ”التهديدات المحتملة”، تغض الطرف عن التهديدات الحقيقية المتمثلة في اختلالات التنمية بالضفتين، وانعدام الثقة، وتنامي الخطابات المتشنجة. فمن السهل إرسال زورق، لكن من الصعب بناء جسر من التفاهم، لا يعلو ويهبط حسب أمواج المزاج السياسي.
يُذكر أن زورق “سيرفيولا” مُجهز لمكافحة تهريب المخدرات والإرهاب والتهريب العام، وهي تحديات مشتركة يعاني منها الضفتان. لكن إسبانيا، كما يبدو، تُفضل التذكير بأنها لا تزال الحارس التقليدي للبوابة الجنوبية لأوروبا، حتى وإن كان ذلك بلغة لا تخلو من رسائل سياسية مضمرة.
واللافت أن الزيارات المبرمجة لـ”سيرفيولا” تشمل موانئ داخلية فقط، وكأن الرسالة موجهة أكثر للداخل الإسباني، لطمأنة الرأي العام بأن “الوطن لا يُفرّط”، وأن الزورق لا يكتفي بالتحرك، بل يحرّك معه مشاعر الفخر القومي، كلما اقترب من جزيرة مهجورة أو مرّ قرب صخرة ما زالت مثار جدل.
أما الجيران، فلا بأس من تذكيرهم بين الحين والآخر، عبر الموجات البحرية، أن البحر الأبيض المتوسط لا يزال في نظر البعض “بحرًا داخليًا”، تتحكم فيه زوارق “الديمقراطية الغربية”، وإن بصيغة استعمارية محدَّثة، عنوانها العريض: “السيادة الممتدة”.
في زمن يُفترض فيه أن يكون التعاون المتوسطي هو العنوان، تُعيد مدريد عبر “سيرفيولا” إنتاج سرديات الماضي بأسلوب جديد، في وقتٍ باتت فيه المنطقة بحاجة لسياسات استشرافية لا استعراضية، مبنية على التفاهم لا الاستقواء.
ويبقى السؤال معلقًا بين الموج وبين المد: هل تسير “سيرفيولا” فعلًا لحماية الملاحة… أم لحراسة رواية سياسية ترفض أن تُراجع نفسها أمام تحولات الواقع؟
25/04/2025