“رحلة 2000 كيلومتر… حافلة بالمعاني”
حين تلتقي الرياضة بالرمزية السياسية، لا بد أن تتجاوز الأمور حدود الملعب. في قسنطينة، لم يكن استقبال فريق نهضة بركان المغربي مجرد بروتوكول رياضي عادي، بل حمل معه رسائل مشفّرة جاءت على متن “كار زغبي” شق آلاف الكيلومترات من تندوف، في رحلة كانت حافلة بالإشارات أكثر منها بالمسافات. هنا، حين يسافر الكرم الافتراضي ويُلبس الحافلات المنهكة وشاح الرمزية، يصبح كل شيء مباحًا… حتى استدعاء الأوهام القديمة إلى مباراة حديثة.
في مشهد لا يخلو من مظاهر النبل ( أو هكذا يبدو لمن شاء أن يراه كذلك )، قطعت حافلة متواضعة — ولنسمها بلغة العارفين “الكار الزغبي” — مسافة تقارب 2000 كيلومتر، بكل صبر وعزم، من تندوف إلى قسنطينة. رحلة شاقة، لا لغرض نقل الفريق البرتقالي المغربي، بل لتحقيق مهمة أسمى: إيصال رسالة ذات دلالة عميقة، عنوانها لوحة ترقيم تندوفية، كأنما أُريد لنا أن نقرأها كما تُقرأ الكتب المفتوحة ونلتقط مراميها دون حاجة إلى كثير اجتهاد.
ومن باب حسن الظن — ونحن قوم لا نبخل به — يمكننا أن نعتبر هذه الخطوة مبادرة رمزية راقية من أهل تندوف الكرام، الذين لم يشاؤوا أن يتركوا جيرانهم المغاربة، ممثلي نهضة بركان، دون لمسة وفاء تذكرهم بتراب الوطن. ضيافة استثنائية، لا تحدث إلا في الحكايات التي تمزج بين الخيال والواقع: حيث تأتي تندوف إلى قسنطينة بدل أن تظل عالقة خلف السراب!
أما الحديث عن لوحات الترقيم، فلا تثريب علينا إن اختلطت علينا الأرقام، فنحن بالكاد نفرق بين رموز مدننا: (1) الرباط، (87) سيدي إفني، (33) أكادير، (2) الدار البيضاء. فكيف لنا، نحن أبناء هذا الوطن الطيبون، أن نفرق بين رقم تندوفي أصيل ورقم آخر وُلد بالتبني فوق أرض قسنطينة الجزائرية ؟
ومن غرائب المشهد، أن الحافلة لم تحمل فقط لوحتها التندوفية، بل جاءت أيضًا محمّلة برمزية أعمق: تذكيرٌ آخر — وإن بدا في غير موضعه — بالدور المعروف للجار الجزائري في تحريك وهم اسمه “البوليساريو”، وكأننا بحاجة إلى حافلة مهترئة أخرى لتذكرنا بأن أوهام الانفصال ما زالت تدور في حلقة مفرغة، تستنزف الوقت والجهد، وتزين المشهد بسذاجةٍ تثير الشفقة أكثر مما تثير الغضب.
أن تتحول مباراة كرة قدم إلى مسرح رمزي لعرض روايات قديمة، هو فن جزائري أصيل في إدارة “المعارك الصامتة”، حيث تُستبدل الإنجازات الواقعية باللافتات والرموز، ويصبح البريق المصنوع بديلاً عن المجد الحقيقي .
27/04/2025