في مشهد درامي يفوق الخيال، ويختزل العبث والانهيار الأخلاقي في تدبير قطاع حيوي، فجّر الدكتور مصطفى بغي، طبيب القلب والشرايين، وبطل المسلسل الرمزي “سامحيني” الذي امتد على 1477 حلقة، فضيحة مدوية هزّت الرأي العام، وعرّت واقعًا مريضًا اسمه: الصحة العمومية بجهة كلميم وادنون.
في حلقة صادمة حملت عنوان “أكل السحت”، تجاوز الدكتور بغي حدود الدراما، ليتحوّل إلى شاهدٍ من أهل الدار، فاضحًا ممارسات بعض من يُفترض أنهم “ملائكة رحمة”، والذين انقلبوا إلى أشباح في الوزرة البيضاء، يتقاضون أجورًا من المال العام، في حين يتغيبون لأشهر دون أي مساءلة، والمريض بين الحياة والموت في صمت القبور.
وبحسب إفادات موثقة نقلتها الجريدة الوطنية كواليس الريف، فإن طبيبًا تابعًا لإحدى المؤسسات الصحية العمومية بجهة كلميم، لم يشتغل سوى 12 أسبوعًا فقط من أصل 36 أسبوعًا منذ تعيينه قبل ثلاث سنوات. الصدمة الكبرى؟ الطبيب المعني قضى موسم 2023/2024 بالكامل خارج التراب الوطني، وبالضبط في فرنسا، دون إذن قانوني، ودون أن تطاله أية مساءلة تأديبية. ليست مجرد مخالفة إدارية، بل طعنة نجلاء في جسد القانون، واستهزاء صارخ بمفهوم المسؤولية.
هنا تتقاطع الأسئلة التي لا يمكن تجاهلها: هل كانت السلطات الجهوية، وعلى رأسها المدير الجهوي للصحة الدكتور إبراهيم بونان، على علم بهذه التجاوزات؟ وأين والي الجهة، السيد محمد الناجم أبهي، من كل ما يحدث؟ وكيف يُسمح لمؤسسات الدولة أن تتحول إلى أوكار للغياب والتسيب الإداري؟
إذا كانت هذه الجهات على علم وسكتت، فالأمر يشي بتواطؤ واضح. وإن لم تكن تعلم، فالكارثة أعظم: مؤسسات بلا مراقبة، إدارة بلا أعين، وثقة مواطنين تُداس تحت أقدام الفساد.
في وطن يُحاسب فيه المواطن البسيط على تأخره عن موعد طبي، يُكافأ البعض بإجازات مفتوحة دون مبرر، مع صرف الأجور والامتيازات من المال العام. فأين هي العدالة؟ أم أن هناك فئة محصّنة لا تطالها يد القانون ولا تُسأل عمّا تفعل؟
وسط هذا المشهد القاتم، تتعالى أصوات الغضب والمطالبة بتحقيق إداري شفاف وشامل، يعيد الاعتبار لمبدأ المحاسبة. تحقيق دقيق يُفعل ما يُشبه “VAR إداري”، يشمل: مراجعة حركة المرور بالحدود، التدقيق في سجلات الحضور بالمؤسسات الصحية، فحص أرشيف الغيابات وأسبابها، وتحديد المسؤوليات الفردية والمؤسساتية.
إن ما يجري في كلميم لا يُسيء فقط إلى جهة مهمّشة، بل يُقوّض الثقة في دولة المؤسسات، ويُناقض توجيهات الملك محمد السادس، الذي شدد غير ما مرة على أن الحق في العلاج خط أحمر لا يُقبل تجاوزه.
مطالب الساكنة باتت واضحة وصريحة: فتح تحقيق وطني عاجل ومستقل، محاسبة جميع المتورطين دون استثناء، استرجاع الأموال العمومية المصروفة ظلمًا، جبر الضرر النفسي والجسدي للمرضى والضحايا.
لقد خرجت الكرة من ملعب وزارة الصحة وحدها، وباتت اليوم في ملعب كل مسؤول آثر الصمت، أو احتمى وراء شعار “النأي بالنفس”. فالتاريخ لا يرحم، ومن لم يتحرك اليوم، سيُسأل غدًا أمام الله، ثم أمام الوطن، وأمام ذاكرة شعب لا تنسى.
“يتبع”
01/06/2025