في تجربة سينمائية فريدة تمزج بين الدراما العائلية والتأمل الروحي، يقدّم المخرج الفرنسي المغربي إسماعيل فروخي فيلمه “الرحلة الكبرى”، الذي يحكي قصة أب تقليدي وابنه المتحرر في رحلة استثنائية من جنوب فرنسا إلى مكة المكرمة، ليستكشفا خلال طريق طويل من التوترات والمسافات، خبايا علاقة أسرية مأزومة، وصراع أجيال يعيش كلٌّ منهما في عالم فكري مختلف.
رغم توافر وسائل السفر السريعة، يصرّ الأب محمد مجد -في دور مميز يُعدّ من آخر ظهوراته السينمائية قبل رحيله- على أداء فريضة الحج بسيارته القديمة، رافضاً استقلال الطائرة، ومفضّلاً أن يقطع أكثر من 5000 كيلومتر برّاً، مرافقاً ابنه رضا (الممثل الفرنسي نيكولا كازالي) الذي يجد نفسه مُجبراً على قبول الرحلة.
تمرّ السيارة عبر ثماني دول أوروبية وآسيوية، في رحلة تمتد من إيطاليا حتى السعودية، لتتحوّل من وسيلة تنقّل إلى فضاء حواري حادّ، تتصادم فيه قناعات الجيل الأول المهاجر، المحافظ والملتزم، مع تمرد جيل شاب نشأ في فرنسا، بعيداً عن موروثاته الأصلية.
يتحدث الأب بالدارجة المغربية، بينما يردّ الابن بفرنسية سليمة، وهو ما يعكس القطيعة الثقافية واللغوية بينهما. رضا، الذي يعيش علاقة حب مع فتاة فرنسية ويكاد ينسلخ عن جذوره، يواجه تحديات الطريق وتسلط والده، الذي لا يتوانى عن التدخل بكل تفاصيل الرحلة، حتى رمى هاتف ابنه لمنعه من التواصل مع حبيبته، بزعم أن ذلك يشغله عن الطريق.
يأخذ الفيلم المشاهد في رحلة “داخلية” أيضاً، حيث يتحوّل الطريق إلى مسرح لاكتشاف الذات، ولمراجعة الماضي والحاضر. ويختار المخرج أن تكون نهاية القصة مفتوحة على الغموض، مع وفاة مفاجئة للأب في الحرم المكي، وهو يؤدي المناسك التي انتظرها طويلاً، ما يمنح الفيلم بُعداً روحياً يتجاوز الخلافات السطحية.
ولعلّ الفيلم يميّز نفسه بكونه أول عمل روائي يُصوَّر داخل الحرم المكي، بعد موافقة استثنائية من السلطات السعودية، ما أضفى على المشاهد الأخيرة واقعية وقدسية نادرة.
تُرافق الرحلة شخصية غامضة هي “دليلة البوسنية”، سيدة ملفعة بالسواد تحلّق حولها الأسئلة. لا تنطق سوى بكلمة واحدة، وتحمل وجهًا يحمل آثار الحروب. وجودها يضفي طابعًا رمزيًا للرحلة، باعتبارها ظلًّا من ظلال الذاكرة الجماعية، وجراح الماضي التي ترافق الإنسان رغم تغيّر الجغرافيا.
ليست الطريق في “الرحلة الكبرى” مجرد مسار جغرافي، بل هي مرآة للصراعات الداخلية، وساحة لتلاقي أو تصادم القيم والهويات. الفيلم يمزج بلغة سينمائية بسيطة وعميقة بين التشويق والإنسانية، ويضع المُشاهد أمام تساؤلات الهوية، والانتماء، والدين، والحب الأبوي، في عالم يتغير بوتيرة متسارعة.
فيلم إسماعيل فروخي ليس فقط دعوة للمصالحة بين جيلين، بل هو أيضًا رسالة حب ووفاء، وأحيانًا غفران متأخر، يأتي فقط على قارعة طريق طويلة نحو الغفران.
07/06/2025