تواجه المملكة المغربية منذ سنوات معضلة متفاقمة تتمثل في هجرة الأطر والكفاءات إلى الخارج، وخاصة نحو دول أوروبا وأمريكا الشمالية. هذه الظاهرة، التي تبدو للبعض خياراً فردياً مشروعاً بحثاً عن فرص أفضل، تحمل في طياتها انعكاسات خطيرة على الاقتصاد الوطني ومسار التنمية الشاملة، سواء على المدى القريب أو المتوسط أو حتى البعيد.
— استثمار الدولة … وخسارة الوطن :
لا يعقل أن تصرف الدولة المغربية، من المال العام، ميزانيات ضخمة من أجل تعليم الطفل المغربي منذ التحاقه برياض الأطفال، مروراً بالتعليم الابتدائي والثانوي، وصولاً إلى التكوين العالي أو المهني، لتأهيله ليصبح طبيباً أو مهندساً أو أستاذاً باحثاً أو إطاراً إدارياً وتقنياً… ثم بمجرد أن يحصل هذا الشاب أو الشابة على الشهادة المطلوبة، تتلقفه أسواق العمل الأوروبية أو الأمريكية أو الكندية، دون أن تساهم هذه الدول ولو بدرهم واحد في تكوينه.
بمعنى آخر، تتحمل ميزانية الدولة والمجتمع المغربي كامل كلفة التربية والتكوين، بينما تجني الدول المستقبِلة ثمار هذا الاستثمار، متمثلة في كفاءة جاهزة للإنتاج والعطاء، دون أن تتحمل عنها أي مقابل، سواء مادياً أو أخلاقياً. إنه استنزاف ناعم، لكنه بالغ الأثر على مستقبل البلاد.
— الانعكاسات السلبية على المدى القريب والمتوسط والبعيد :
1. على المدى القريب: تعاني المستشفيات من خصاص في الأطباء والممرضين، وتعجز المقاولات الوطنية عن إيجاد مهندسين وتقنيين أكفاء، كما تجد الجامعات صعوبة في الحفاظ على أساتذتها الباحثين. هذه النواقص تنعكس مباشرة على جودة الخدمات الصحية، وتنافسية الاقتصاد، وقدرة منظومة البحث العلمي على التطور.
2. على المدى المتوسط: يؤدي هذا النزيف إلى ضعف تنافسية الاقتصاد الوطني في القطاعات الحيوية، ويعزز تبعية المغرب التكنولوجية والعلمية للخارج، ويحد من قدرته على إنتاج حلول وطنية لمشاكله الاجتماعية والبيئية والاقتصادية.
3. على المدى البعيد: تترسخ ظاهرة “هجرة العقول”، فتفقد البلاد جزءاً كبيراً من نخبتها العلمية والتقنية والإدارية، وهو ما يهدد إمكانية تحقيق أي مشروع وطني حقيقي للإقلاع الاقتصادي والتنمية المستدامة، خاصة في ظل التحولات العالمية المتسارعة التي تضع الكفاءات البشرية في صلب التنافس الدولي.
— ما العمل؟
ينبغي على الحكومة المغربية أن تتعامل مع هذه الظاهرة كأولوية وطنية تستحق الدراسة العميقة، وتقييم نتائجها الاستراتيجية، واقتراح حلول عملية لها، ومن بين هذه الحلول:
🔹فتح هذا الملف في إطار العلاقات مع الاتحاد الأوروبي وكندا وأمريكا، وطرحه رسمياً داخل اللجان الثنائية والمشتركة، لبحث إمكانية توقيع اتفاقيات تعوّض المغرب عن الكفاءات التي يستقبلها الطرف الآخر، أو تُلزم هذه الدول بالمساهمة في دعم مشاريع تكوين جديدة داخل المغرب.
🔹تحفيز الكفاءات على البقاء عبر تحسين ظروف العمل والبحث العلمي، وتطوير مناخ المقاولة الوطنية، وفتح آفاق الابتكار والتجديد أمام الشباب المغربي داخل وطنه.
🔹تشجيع عودة الأطر المغربية بالخارج عبر برامج استقطاب مرنة، تتيح لهم المشاركة في المشاريع الوطنية، أو الاستثمار بخبراتهم وتجاربهم داخل المغرب.
🔹خلق صندوق تعويضات دولي لفائدة الدول المصدرة للأطر، تحت إشراف الأمم المتحدة أو منظمة العمل الدولية، يكون هدفه إنصاف هذه الدول ومساعدتها على تكوين أطر جديدة لتعويض الخصاص.
خلاصة :
هجرة الأطر والكفاءات ليست فقط مسألة فردية تتعلق بالحرية في اختيار مكان العمل، بل هي قضية وطنية وسيادية تهم مستقبل المغرب واستقراره وتقدمه. وإذا لم يُتخذ القرار الحاسم اليوم، فإن الثمن الذي سيدفعه المغرب غداً سيكون باهظاً، ليس فقط مالياً، بل حضارياً وتنموياً.
د. نورالدين البركاني
باحث في قضايا الإصلاح والتنمية