في تحوّل نوعي يُجسّد طموحات أوروبا في التحوّل الأخضر، دشّنت إسبانيا أول “طريق سريع سككي” في تاريخها، يسمح بنقل الشاحنات من إيطاليا إلى العاصمة مدريد دون أن تطأ عجلاتها الطرق البرية. مشروعٌ غير مسبوق، يجمع بين النقل البحري والسككي في سلسلة واحدة متكاملة، تضع إسبانيا في طليعة الدول التي تعيد رسم خرائط اللوجستيك وفق منطق الاستدامة.
يبدأ المسار من الموانئ الإيطالية، حيث تُحمّل المقطورات على متن سفن تنقلها إلى ميناء فالنسيا الإسباني. وهناك، في ركن من أركان الميناء يعجّ بالحركة، تقوم رافعات ضخمة بنقل هذه المقطورات مباشرة إلى عربات قطار مخصصة، تنقلها إلى مدريد دون تفريغ أو إعادة تحميل. كل ذلك يتم في زمن قياسي وبدقة عالية، ما يعني خفضًا هائلًا في الوقت والتكاليف.
هذا النموذج لا يُعدّ فقط خطوة نحو تسريع عمليات الشحن، بل يمثل نقطة تحوّل بيئية بامتياز. إذ تشير التقديرات إلى أن الانبعاثات الناتجة عن الرحلة تُقلّص بنسبة تفوق 80% مقارنة بالشحن عبر الطرق التقليدية. وهو ما يعزز التزام إسبانيا والأجندة الأوروبية للحدّ من الغازات المسببة للاحتباس الحراري وتفعيل الاقتصاد الأخضر.
المشهد في ميناء فالنسيا يبدو أقرب إلى تكنولوجيا الغد: شاحنات كاملة تُرفع كما هي، وتُدرج على سكك حديدية دون تفريغ أو مناورات معقدة. هذه الدينامية الجديدة تلغي الحلقات الوسيطة وتضع معيارًا جديدًا في مرونة النقل، عبر دمج سلسٍ بين البحر والبر في خدمة التجارة والتنمية.
لا تتوقف طموحات المشروع عند حدود إسبانيا. فالخطة تسعى إلى توسيع هذه “الطرق السريعة الحديدية” إلى وجهات جديدة داخل أوروبا، مما سيسمح ببناء شبكة قارية تعتمد على القطارات بدل الشاحنات، وتقلل الاعتماد على الطرق المزدحمة، وتفتح آفاقًا جديدة أمام سوق النقل الدولي.
هذا المشروع ليس فقط إنجازًا لوجستيًا، بل هو إعلان دخول إسبانيا عصرًا جديدًا من البنية التحتية النظيفة والذكية. وهو دليل على أن الابتكار يمكن أن يذهب أبعد من التطبيقات التكنولوجية، ليصبح أداة استراتيجية من أدوات السيادة الاقتصادية والبيئية.
22/06/2025
