نظمت البحرية الإسبانية “زيارة مفتوحة” لسكان سبتة المحتلّة، بكل فخر إلى حاملة الطائرات “خوان كارلوس الأول” والفرقاطة “بلاس دي ليزو” الراسيتين في ما يُعرف بـ”رصيف إسبانيا” … نعم، “إسبانيا” على أرض مغربية، بنكهة جغرافيا مغتصبة وتاريخ لم يُطوَ بعد.
الحدث، الذي يدخل في إطار مناورات “ديدالو 25-2″، يبدو أقرب إلى استعراض عضلات بقايا إمبراطورية تستعرض أطياف مجدها الغابر على أبواب إفريقيا. حضور الأميرة ليونور على متن الفرقاطة يضيف بُعدًا “سيرياليًا” إلى المشهد، وكأنّ التاريخ يصرّ على تكرار نفسه، لكن هذه المرّة برعاية “الناتو” وبأزياء ملكية مزيّنة بشعارات الوحدة الترابية… الإسبانية طبعًا!
ظهور الأميرة الشابة، وريثة العرش، وهي تتدرّب في مدينة تحتلّها بلادها منذ أكثر من خمسة قرون، لا يحتاج لكثير من التأويل. فبينما تعتبر مدريد سبتة “إسبانية أكثر من مدريد نفسها”، لا تكف الرباط عن التذكير، بكل الوسائل، بأنّ هذا الثغر ما هو إلا جرح استعماري لم يُضمد بعد، وأنّ المياه التي تبحر فيها الفرقاطات الحربية هي مياه مغربية، مهما حاول الإعلام الإسباني إغراق الحقيقة في بحرٍ من البلاغة السياسية.
ولأنّ الاستعمار حين يُصبح مألوفًا يحتاج إلى رتوش تسويقية، فقد شاركت الأميرة في “السبت اللخيوني”، ثم انتقلت لتناول الكسكس والبسطيلة تحت عدسات الكاميرات، وكأنّ قطعة الخبز المغربي يمكن أن تزيل مرارة الاحتلال! صورة سياحية بامتياز: أميرة إسبانية تتذوّق المطبخ المغربي، وسط أجواء تطغى عليها نكهة العسكر وبذخ الاستعلاء التاريخي. أهو “استعمار فاخر” بنكهة الرويال كوزين؟
اللافت أن المناورات البحرية تُسوّق كجزء من التعاون الدفاعي في إطار الحلف الأطلسي، وكأنّ “الردع الاستراتيجي” يمرّ بالضرورة عبر استعراض السلاح في مدن محتلة! من منظور مغربي، لا يبدو هذا إلا امتدادًا لصمت دولي عن قضية استعمارية تُدار اليوم بلغة الحداثة والدبلوماسية الناعمة، بينما تحتها تتآكل مفاهيم السيادة والحق التاريخي.
سيُسمح لسكان سبتة بزيارة السفن، نعم، لكن ما يُفتح فعلًا هو جرح الجغرافيا، واستفزاز السيادة، وتساؤلات عن منطق العلاقات المغربية-الإسبانية التي تعيش منذ سنوات على إيقاع الأزمات المؤجلة. هل تسعى مدريد إلى تثبيت سيادتها عبر رمزية الأميرة والبوارج، أم أنها تُقامر بورقة شديدة الحساسية في منطقة لم تعد تقبل بالوصاية؟
أم أنّ الوقت قد حان لتعيد الجارة الشمالية قراءة نفسها، لا من خلال منظار الهيمنة، بل من زاوية العدالة التاريخية، والاعتراف بأنّ البحر لا يُمكنه محو خريطة اسمها المغرب؟
لكن يبدو أن مدريد تُفضّل العيش في مسرح الظلال، حيث تُبدَّل الأعلام بالملوحة، وتُرسم السيادة بأمواج البحر، وكأنّ بضع مناورات وبروتوكولات ملكية قادرة على إقناع الجغرافيا بالتنازل عن موقعها، والتاريخ بمحو ذاكرته، والمغاربة بالتخلّي عن حقهم “لأجل صحن كسكس مشترك”.