kawalisrif@hotmail.com

الذكاء الاصطناعي والتزييف الثقافي: حرب ناعمة على وعي المغاربة في ثوب الترفيه

الذكاء الاصطناعي والتزييف الثقافي: حرب ناعمة على وعي المغاربة في ثوب الترفيه

يشهد العالم طفرة غير مسبوقة في تقنيات الذكاء الاصطناعي، التي باتت تحدث ثورة عميقة في مجالات الإعلام والتعليم والتواصل وصناعة المحتوى. وبقدر ما فتحت هذه التقنيات آفاقًا واسعة للإبداع وسرّعت وتيرة الابتكار، فإنها حملت معها أيضًا تحديات عميقة تضرب في عمق الهوية والقيم، خاصة حين تُستخدم في توجيه الرأي العام والتأثير على البنية الثقافية للمجتمعات عبر أدوات ترفيهية خادعة.
في المغرب، تظهر مؤشرات واضحة على هذا الاستغلال السلبي، حيث أصبحت الخوارزميات تصنع “واقعًا رقميًا” يسحب المواطن المغربي ببطء نحو عوالم من التزييف والابتذال، تحت غطاء الابتكار والحداثة.

التزييف العميق: عندما يتحول الذكاء الاصطناعي إلى آلة لصناعة التفاهة

انتشرت في الآونة الأخيرة مقاطع فيديو تعتمد تقنيات “التزييف العميق” (Deepfake)، تُظهر مغاربة، نساءً ورجالاً وحتى أطفالاً، في مواقف وسياقات لا تليق بهم ولا تعكس حقيقة مجتمعهم. يُقدَّم الطفل وهو ينطق بكلام جارح، والمراهق يناقش مواضيع جنسية أو سلوكية بمنتهى الانفلات، كل ذلك بلغة مغربية مألوفة، في إطار ساخر أو هزلي، وكأننا أمام مشاهد بريئة هدفها الترفيه لا أكثر.

لكن الحقيقة أن هذه الفيديوهات ليست صدفة، بل تُنتج وفق منطق خوارزمي دقيق، يرصد ردود الأفعال، ويتتبع التفاعل، ثم يُغرق المستخدم بمحتويات مشابهة، ضمن “فقاعة رقمية” تُحاكي ذوقه وتعيد تشكيل وعيه دون أن يشعر. إنها عملية “تخدير جماعي ناعم”، لا تفرض الصدمة، بل تُغلف الإساءة في قالب ممتع وسهل الهضم.

التراث واجهة… والمضمون منحط

الأدهى أن هذه المقاطع تتخفى خلف رموز التراث المغربي: الجلباب، القفطان، الأهازيج، أزقة المدينة العتيقة، وحتى المعمار التاريخي، كلها تُستخدم كزينة بصرية تُغري المشاهد بالانتماء، بينما يُمرر في الخلفية مضمون يُروّج للتفاهة والانحلال. إن ما يحدث هو “مصادرة ناعمة للهوية”، يتم من خلالها تجريد الرموز الثقافية من معناها، وتفريغها من قيمها، لتُستغل في خدمة خطاب مُشوَّه يعيد تشكيل صورة المغربي، ليس كما هو، بل كما يُراد له أن يكون.

الرسائل المبطّنة كثيرة: الحرية تُساوي التمرد، الأصالة تُساوي الجمود، والنجاح لا يتحقق إلا بالمحتوى المثير للجدل. بهذه الطريقة، يُعاد بناء صورة نمطية جديدة للمغربي في الذهن العام، داخل البلاد وخارجها، على أنه كائن مستهلك للتفاهة، بعيد عن الوعي، هشّ في قيمه، وفارغ في فكره.

لماذا المغرب؟ ولماذا الآن؟

الجواب بسيط: لأن الذكاء الاصطناعي لم يعد مجرد تقنية، بل أداة تعرفك أكثر مما تعرف نفسك. وهو يدرك جيدًا أن أخطر طرق التأثير لا تمر عبر الصدام، بل عبر الاستدراج الرمزي، عبر اللهجة، اللباس، الموسيقى، والوجوه المألوفة. وحين يُقترن الانحلال بصور من ثقافتنا، يُخترق وعي المتلقي دون مقاومة.

ما يحدث ليس فقط حربًا على الصورة، بل هو مشروع عميق لإعادة تشكيل الهويات، حيث تُستبدل المرجعيات الأصيلة بأصوات إلكترونية تُقدّم التفاهة كخيار حياة، وتحوّل “المؤثرين” إلى قدوة تُلغى أمامها رمزية العالم والمفكر والمربي والفنان الحقيقي.

الخطر الحقيقي: تفكيك البوصلة الأخلاقية

إن التهديد الأكبر الذي تواجهه المجتمعات اليوم ليس في قدرات الذكاء الاصطناعي، بل في غياب الوعي الجمعي بكيفية مواجهته، وانعدام الضوابط التي توجه استخدامه. فحين تُترك الخوارزميات دون مساءلة، يُصبح الفضاء الرقمي ساحة مفتوحة لاختراق العقول، وتفريغ الهوية من محتواها.

نحن لا نواجه فقط أزمة محتوى، بل معركة بقاء رمزي وقيمي، تتطلب تحركًا على مستويات متعددة:

  • تثقيف رقمي حقيقي: لا بد من دمج التربية الرقمية في المناهج التعليمية، لتأهيل الأجيال القادمة على التمييز بين ما يُقدَّم على أنه ترفيه بريء، وما يُخفي خلفه أهدافًا مدمّرة.
  • تشريع وضبط: على الدولة سن قوانين تُجرّم استخدام الذكاء الاصطناعي في تشويه صورة المجتمع، والإساءة إلى رموزه وقيمه.
  • إنتاج مضاد: يجب ألا يُترك الفضاء الرقمي فارغًا، بل يجب ملؤه بمحتوى إيجابي، جذاب، ذكي، وعميق، يُقدم النموذج المغربي في أبهى صوره دون استلاب أو تزييف.

الوعي هو خط الدفاع الأول

نحن أمام مشروع اختراق ناعم، لا تُطلق فيه رصاصة، لكن يُخترق فيه العقل دون مقاومة. تبدأ المعركة من قرار بسيط: ألا نمرر كل ما يُعرض علينا. أن نُدرب أنفسنا على الشك، على التحليل، على الرفض الواعي. فالهويات لا تُباع في الريلز، ولا تُستبدل بزر “أعجبني”.

إذا أردنا أن نحافظ على مغربيتنا، فعلينا أن ندرك أن المعركة لم تعد فقط في المدارس والمجالس، بل في الشاشات الصغيرة التي نحملها معنا، وترافق أبناءنا كل لحظة.
والرد يبدأ من هنا: من وعي نقدي، ومن مجتمع لا يسمح بأن تتحول ثقافته إلى سلعة، وكرامته إلى مادة ضحك.

دعونا لا نُصفق لمن يسخر منا، ولا نشارك في المحتوى الذي يهدمنا ونحن نضحك.

إنها معركة وعي… فإما أن نصنع الواقع أو يُصنع لنا.

27/06/2025

Related Posts