على مدى السنوات الأخيرة، تسجل إسبانيا ارتفاعًا ملحوظًا في عدد الاعتداءات ضد عناصر أمنها، لا سيما على حدودها الجنوبية مع المغرب، حيث تقع المدينتان المحتلتان، سبتة ومليلية. وبحسب المعطيات الرسمية، تجاوز عدد هذه الحوادث خلال عام 2024 حاجز 16,800 حالة، في منحى تصاعدي مستمر منذ عام 2019، ضمن ما تصفه السلطات بأنه “تآكل في احترام هيبة الدولة”.
لكن هذا السرد الإسباني، المُقدَّم في إطار أمني صرف، يُخفي كثيرًا من الحقائق والاعتبارات الميدانية. فهل من المنطقي الحديث عن “احترام القانون” عند حدود تربط بين دولة أوروبية وأرض إفريقية خاضعة للاحتلال؟ وهل من العدل اختزال قضية الهجرة في رواية أحادية تُصوّر المهاجر باعتباره “معتديًا”، فقط لأنه يحاول النجاة؟
في 11 ماي الماضي، أوقفت السلطات الإسبانية مهاجرًا من إفريقيا جنوب الصحراء، حاول اجتياز السياج الحديدي المحيط بمدينة سبتة. وُجّهت إليه تهمة “الاعتداء على عنصر من الحرس المدني”، وقضت المحكمة بسجنه سنتين مع وقف التنفيذ، وغرامة لم تتجاوز 150 يورو.
هذا الحكم يكشف عن رسالة مزدوجة من الدولة الإسبانية: فمن جهة، ترفض الاعتداء على عناصرها الأمنية، لكنها من جهة أخرى تُبقي الباب مفتوحًا أمام نوع من “الإدماج القسري” لأولئك الذين دخلوا بالقوة. والمفارقة أن من يُوقَف دون عنف يُعاد فورًا إلى المغرب، بينما من يُتّهم بالاعتداء يُحاكَم ثم يُترك داخل التراب الإسباني. فهل بات العنف “تذكرة عبور شرعية”؟ أم أن النظام القضائي الإسباني يعاني ارتباكًا في معالجة ملف تُراد له حلول تقنية، بينما طبيعته في جوهرها إنسانية وجيوسياسية؟
من منظور مغربي، لا يمكن فصل هذه الوقائع عن السياق الاستعماري المستمر لمدينتي سبتة ومليلية. فبينما تسوّق مدريد نفسها كضحية للهجرة غير النظامية، تتجاهل تمامًا أن هذه “الحدود” قائمة على أرض مغربية محتلة، وأن السياج الحدودي لا يمثل فقط فاصلًا جغرافيًا، بل هو أيضًا حاجز نفسي وثقافي بين شمال مرفّه وجنوب مثقل بالأزمات.
ومن هنا، فإن ما يحدث على حدود سبتة ومليلية لا يُجسد فقط مأساة المهاجر، بل يفضح فشل السياسات الأوروبية – والإسبانية تحديدًا – في بناء علاقة متكافئة مع إفريقيا. فكل محاولة لعبور السياج ليست مجرد “خرق أمني”، بل هي صرخة احتجاج ضد نظام دولي يُصنّف البشر وفق خرائط الولادة.
لقد اختارت إسبانيا، ومن ورائها الاتحاد الأوروبي، خلال العقدين الأخيرين، مواجهة ظاهرة الهجرة بمقاربات أمنية: أسلاك شائكة، كاميرات حرارية، طائرات مسيّرة، وحرس مدججون بالسلاح. لكنها لم تدرك بعد أن اليأس لا تردعه الجدران، وأن الفرار من الموت أقوى من كل السياجات.
والمفارقة المؤلمة أن عناصر الحرس المدني، الذين يتم تصويرهم كـ”ضحايا”، هم أنفسهم أدوات في صراع أوسع، تحولوا فيه إلى رهائن لسياسات تفتقر للرؤية الإنسانية والبعد الاستراتيجي.
لقد آن الأوان لإعادة طرح هذا الملف من زاوية جديدة: مغربية وإفريقية أولًا، وإنسانية بالضرورة.
مدريد مطالَبة اليوم، أكثر من أي وقت مضى، بالتخلي عن خطاب الضحية، والاعتراف بأن استمرار احتلال سبتة ومليلية هو العقبة الجوهرية أمام أي تعاون حقيقي. فالشراكة بشأن الهجرة تفقد معناها في ظل هذه الازدواجية الصارخة.
أما المغرب، الذي يتحمل عبء حماية حدود لا يعترف بشرعيتها، فله كامل الحق في إعادة النظر في شكل ومضمون هذه “الشراكة”، إذا استمر الجار الشمالي في اعتماد سياسة الكيل بمكيالين.
“من يعتدي على رجل أمن لا يجب أن يُكافأ”… نعم.
ولكن من يحتل أرضًا لا يجب أن يُكافأ بالصمت، ومن يُدير الهجرة بعقلية الجدران لا يُنتظر منه سلام ولا أمن.
بل إن الواقع بات أكثر مفارقة: من يعتدي يُمنح إقامة، ومن لا يعتدي يُرحّل!
في زمن أصبحت فيه الأسلاك الشائكة حواجز للكرامة أكثر من كونها حواجز للأمن، تواصل مدريد الرقص على حبل مشدود بين ادعاء السيادة والتذمر من المسؤولية.
فسبتة ومليلية ليستا فقط نقطتي عبور، بل نقطتي فضيحة أخلاقية وجيوسياسية، حيث يتحول الاحتلال إلى أمر واقع، والمهاجر إلى متهم، والاحتجاج إلى جريمة.
أما المغرب، فقد بات حارسًا بلا أجر لبوابة لا تخصه؛ يُطلب منه الأمن، ويُحرم من الاعتراف.
فهل آن الأوان لقلب السؤال على مدريد: من يكافئ نفسه على احتلال الأرض، ويشتكي من اختراق حدود لم تكن يومًا له؟
29/06/2025