في خطوة غير مسبوقة أثارت صدمة مدوية في الأوساط العلمية والأكاديمية، قررت السلطات الهولندية سحب الجنسية من العالم الفيزيائي الشهير أندري غايم، الحائز على جائزة نوبل للفيزياء عام 2010، في واقعة تختزل كيف يمكن لقانون بيروقراطي جامد أن يُقصي من خدم البلاد بعقله، وعزّز من صورتها في مراكز البحث والجامعات الكبرى حول العالم.
غايم، الروسي الأصل، الذي يقيم حاليًا في بريطانيا ويحمل جنسيتها، تلقى مؤخرًا رسالة رسمية من وزارة الخارجية الهولندية تطلب منه تسليم جواز سفره الهولندي دون أي مبررات إنسانية أو اعتبارية. السبب؟ ببساطة، أنه حصل على الجنسية البريطانية منذ أكثر من عقد، ما يعني – وفقًا لقانون الجنسية الهولندي – فقدانًا تلقائيًا وغير قابل للنقاش للجنسية الهولندية، حتى وإن كان الشخص أحد أعلامها ومفخرتها العلمية.”لقد طُردت من البلاد وكأنني شيء بلا قيمة”، هكذا علّق غايم بمرارة، مُعربًا عن خيبة أمله من بلد كان يظنه حضنًا معرفيًا دافئًا، قبل أن يتحوّل إلى جهاز إداري جاف لا يعترف إلا بالأنظمة الصمّاء.
المفارقة المؤلمة أن غايم لم يكن مواطنًا عاديًا، بل شخصية مُكرّمة في هولندا، حيث حصل على وسام الأسد الهولندي، وهو أعلى وسام مدني في البلاد، كما ساهم في اكتشاف مادة “الغرافين” الثورية، في مختبر مشترك بين هولندا وبريطانيا، وهو الاكتشاف الذي قاده لاحقًا إلى نوبل. بل وأكثر من ذلك، له تمثال نصفي في العاصمة لاهاي، ولا تزال موسوعة ويكيبيديا العالمية تُعرّفه بـ”العالم الهولندي”… لكن كل هذا لم يكن كافيًا. “لو كنت أعلم أن حصولي على الجنسية البريطانية سيكلفني الهولندية، لرفضت التكريم أصلاً”، تابع غايم في تصريح يعكس الغضب والانكسار، مشيرًا إلى أنه لم يتخلَ يومًا عن هولندا أو ينكر فضلها، بل اختياراته المهنية كانت دائمًا من أجل تطوير أبحاثه ورفع اسم البلد الذي احتضنه.
ردود الفعل الغاضبة لم تتأخر، إذ بدأت العديد من الشخصيات الأكاديمية والمؤسسات البحثية الهولندية والدولية تنتقد هذا القرار الذي اعتبروه نكسة أخلاقية وقانونية، متسائلين: كيف يمكن لقانون وُضع في سياق هجرة أو تجنيس عادي، أن يُطبّق على شخص استثنائي يُعدّ من أعمدة العلم المعاصر؟ هل يمكن أن تقف “ورقة جواز” في وجه كل هذا العطاء؟
يسحب الجنسية تلقائيًا عند الحصول على جنسية ثانية.
يتيح استثناءات ضيّقة جدًا، تشمل فقط الحالات الإنسانية والقانونية الخاصة.
لا يضمّ أي استثناء صريح لأصحاب الإنجازات الكبرى أو الشخصيات العامة.
أمام هذه الصيغة القانونية القاسية، يُطرح اليوم سؤال وجودي في هولندا: هل الجنسية الهولندية مجرّد وثيقة أم شراكة أخلاقية وثقافية بين الفرد والدولة؟ وهل من المنطقي أن تُسقط هذه الشراكة بجرة قلم، فقط لأن عبقريًا ما قرّر التقدّم مهنيًا خارج الحدود؟
النتيجة واضحة: لم يخسر أندري غايم شيئًا من علمه ولا من مكانته الرفيعة، فهو ما يزال أحد أعظم علماء هذا القرن، وعضوًا بارزًا في هيئة التدريس بجامعة مانشستر البريطانية. لكن الخسارة الكبرى كانت لهولندا، التي فقدت برعونتها البيروقراطية رمزًا عالميًا كان من الممكن أن يبقى فخرًا وواجهة مشرّفة لسياساتها العلمية والإنسانية.
02/07/2025