في عام 2024، تحوّلت تأشيرة “شنغن” من رمز للتنقّل والتبادل الثقافي والاقتصادي إلى آلة مالية ضخمة تجترّ أحلام الملايين وتُغذّي خزائن الاتحاد الأوروبي بأرباح صامتة على حساب البسطاء. لم تعد “الفيزا” مجرد وثيقة سفر، بل أصبحت سلعة مربحة يُباع فيها الأمل وتُشترى فيها الأوهام، في سوق تُهيمن عليه البيروقراطية والتعتيم.
ووفقًا للإحصائيات الأوروبية، تم رفض أكثر من 1.7 مليون طلب تأشيرة خلال عام واحد فقط، ما أدى إلى خسائر مباشرة للمواطنين تجاوزت 145 مليون يورو، ذهبت كلها كرسوم غير قابلة للاسترداد، حتى في حالات الرفض التعسفي أو غير المبرر. والنتيجة: طوابير من الحالمين، وأكوام من الوثائق، وجيوب فارغة.
رغم أن رسم التأشيرة لا يتجاوز في الظاهر 85 إلى 90 يورو، فإن حجم العائدات الناتجة عنه يكشف عن نظام اقتصادي موازٍ مبني على استغلال الأمل. ففي سنة 2024، جنت دول الاتحاد الأوروبي ما يقارب مليار يورو (995 مليونًا) من رسوم التأشيرات فقط، في زيادة تفوق 20% عن العام السابق، ما يطرح تساؤلات أخلاقية قبل أن تكون قانونية.
فالمسألة لم تعد تتعلق برسوم إدارية، بل أصبحت فعليًا “ضريبة على الحلم”، أو كما يصفها البعض بسخرية لاذعة: “جمارك الوهم الأوروبي”. يُدفع المبلغ مسبقًا، ولا يُعاد مهما كانت الظروف، لتتحوّل القنصليات إلى صناديق مالية مغلقة، بلا رقابة ولا مساءلة.
تتصدّر الصين قائمة الدول الخاسرة بـ1.7 مليون طلب تأشيرة، وخسارة مالية تجاوزت 151 مليون يورو. تليها دول مثل تركيا، روسيا، الهند، وباكستان. أما المغرب، فجاء في المرتبة الرابعة عالميًا بـ606 آلاف طلب، وخسارة ناهزت 51.6 مليون يورو، رغم ما يُقال عن “الشراكة المتقدمة” و”علاقات الجوار النموذجية” مع الاتحاد الأوروبي.
والمفارقة المؤلمة أن هذه الدول، رغم تعاونها الاقتصادي والدبلوماسي مع أوروبا، لا تحظى بمعاملة تفضيلية، بل تُدرج غالبًا في خانة “الخطر المحتمل”، مما يرفع نسب الرفض ويضاعف المعاناة النفسية والمادية لمواطنيها.
الصدمة لا تقف عند الخسارة المالية. فهناك دول يُمارَس ضد مواطنيها ابتزاز قنصلي مقنّن: خذ أموالك، واحتمل رفضك بصمت، دون أي تبرير. يُطلب من المتقدمين تقديم كمّ هائل من الوثائق، وكشوف الحسابات البنكية، ورسائل الدعوة أو التوظيف، ثم يُفاجأون برفض بارد لا يشرح شيئًا.
الواقع يفضح نظامًا لا يفرز المتقدمين بناءً على الكفاءة أو النوايا أو الخطط، بل على أساس الانتماء الجغرافي والسياسي، بما يحمله ذلك من تمييز مؤسسي وهيمنة عنصرية صامتة لا أحد يجرؤ على فضحها علنًا.
الدول التي ترفع شعارات “الشفافية” و”حقوق الإنسان”، هي نفسها التي تتصدر سباق جباية الرسوم دون حرج. وحدها فرنسا جمعت أكثر من 261 مليون يورو من رسوم التأشيرات، تليها إسبانيا، ألمانيا، وإيطاليا.
لم تعد التأشيرة أداة دبلوماسية ولا وسيلة تبادل إنساني، بل تحوّلت إلى سلعة مربحة في سوق مغلقة، تُدر أرباحًا تفوق أحيانًا صادرات بعض الصناعات التقليدية. فهل ما نراه هو نظام قانوني، أم نموذج استغلالي مُمَنهج؟ وهل ما زالت “القيم الأوروبية” قائمة وسط هذه المتاهة البيروقراطية الصارمة؟
لماذا لا تُوجد معايير شفافة ومعلنة لتفسير قرارات الرفض؟
لماذا لا تُسترجع الرسوم في حال رفض التأشيرة؟
لماذا تُعامل الدول المغاربية والأفريقية كخزائن مفتوحة لا يُسأل عن أموالها أحد؟
والأهم: لماذا تصمت الحكومات العربية؟ ولماذا لا تطالب بتقارير رسمية حول مصير مئات الملايين التي يدفعها مواطنوها سنويًا وتتبخّر بلا عائد؟
تأشيرة شنغن لم تعد مجرد وسيلة عبور. لقد أصبحت منظومة مالية ضخمة تعمل على وقود الحالمين وتستمد أرباحها من أوجاع أولئك الذين يُسمّون “شركاء”، و”جيران”، و”حلفاء”.
02/07/2025