kawalisrif@hotmail.com

تسليط الضوء على تاريخ الريف :    ندوة فكرية بمليلية تُسلّط الضوء على دور مغربي منسي في تحرير الجزائر

تسليط الضوء على تاريخ الريف : ندوة فكرية بمليلية تُسلّط الضوء على دور مغربي منسي في تحرير الجزائر

في لحظة استثنائية تعانق فيها الذاكرة التاريخية أسئلة الحاضر، احتضنت جامعة “أونيد” بمدينة مليلية المحتلة ندوة فكرية متميزة، مساء الثلاثاء فاتح يوليوز، أطرها المؤرخ المغربي الدكتور ميمون أزيزا، أستاذ التاريخ المعاصر بجامعة مولاي إسماعيل بمكناس، وسليل مدينة الناظور التي لا تزال تنبض بتاريخ المقاومة والارتباط الوجداني بالضفة الأخرى من الاستعمار.

الندوة، التي نُظمت بشراكة بين منتدى الفلسفة وثقافة السلام ومؤسسة محمد خضير الحموتي – الجندي الإفريقي لحفظ ذاكرة الريف وشمال إفريقيا، جاءت تحت عنوان: “مساهمة مليلية في تحرير الجزائر: شخصية محمد الخضير الحموتي”، واستقطبت عددًا مهمًا من الفعاليات المدنية والأكاديمية، كما حظيت بتغطية إعلامية واسعة.

الدكتور أزيزا، الذي يشتهر بإسهاماته الرصينة في كشف خبايا تاريخ الريف المعاصر، قدّم عرضًا غنيًا بالوثائق والشهادات المستقاة من أرشيفات فرنسية، سلط فيها الضوء على الوجه غير المرئي لمدينة مليلية المحتلة، بوصفها معبرًا حيويًا ومخفيًا لعبور السلاح والمجاهدين نحو الجزائر، خلال مرحلة ما بين 1954 و1962، بدعم مباشر من أبناء الريف وشخصيات مقاومة، أبرزها محمد الخضير الحموتي، المعروف بلقب “الجندي الإفريقي”.

لم يكن الحموتي، كما أبرزت الندوة، مجرد وسيط أو متعاطف، بل كان شريكًا استراتيجيًا لجبهة التحرير الوطني الجزائرية، يحتضن رموزها في بيته ببني أنصار، ويموّل عملياتها من ماله الخاص، ويسهم في محطات حاسمة، مثل مؤتمر الصومام، وتأسيس الحكومة المؤقتة للجمهورية الجزائرية سنة 1958. ورغم كل ذلك، ظل يرفض تولي أي منصب رسمي حفاظًا على مغربيته، وهو الموقف الذي يُعلي من رمزيته الوطنية العابرة للحدود.

الندوة لم تتوقف عند سرد الأدوار البطولية فحسب، بل طرحت أسئلة حساسة عن الاختفاء الغامض لمحمد الحموتي سنة 1963، عقب سفره إلى الجزائر في مهمة قيل إنها بتكليف من الملك الراحل الحسن الثاني. منذ ذلك الحين، اختفى الأثر، وغابت الرواية الرسمية، ليظل هذا الاسم العابر للخرائط مطمورًا في هوامش التاريخ، رغم بصماته العميقة في معركة تحررت فيها الجزائر بدماء مغربية.

وفي هذا السياق، لفت الدكتور أزيزا إلى أن غياب الحموتي عن سرديات الدولتين لا يعكس مجرد نسيان عفوي، بل إرادة سياسية في إخفاء جزء من الحقيقة، والتقليل من شأن التضامن المغاربي الذي لم يكن يومًا رهين الحدود أو المصالح الضيقة.

اللقاء شكل محطة لإعادة الاعتبار لذاكرة الريف المنسية، ذاكرة المقاومين والمهربين الأشاوس الذين جعلوا من الثغور المحتلة، ومنها مليلية، جسورًا للصراع ضد الاستعمار الفرنسي، لا نقاط عبور استهلاكية كما تُقدَّم اليوم. لقد سلّطت الندوة الضوء على كيف كانت مليلية، رغم استعمارها، ممرًا للسلاح وليس للهجرة، ومقرًا للمقاومة لا للتبعية، وهو ما يعيد رسم صورة المدينة في مخيالنا الجماعي خارج منطق الضحية والمركز.

بأسلوبه التحليلي العميق، وقدرته الاستثنائية على الربط بين الوثيقة والسياق، أعاد الدكتور ميمون أزيزا الاعتبار لصفحات مجهولة من التاريخ المغاربي، وكشف عن خيوط خفية كانت، ولا تزال، تُخفي وراءها قصة مقاومة عابرة للحدود، وتاريخًا مكتومًا يستحق أن يُروى.

وفي ظل الصمت المؤسساتي حول هذه الصفحات، تبرز مثل هذه الندوات كفعل مقاومة فكرية، يرمم الشروخ في الذاكرة الجماعية، ويفتح النقاش حول مسؤولية التأريخ والاعتراف في ظل تحولات مغاربية لا تزال أسيرة الماضي المنقوص.

من قلب مدينة محتلة، ومن منصة أكاديمية تشهد على تناقضات التاريخ والجغرافيا، صدح صوت الريف مجددًا ليقول: “لم نكن هامشًا في معارك التحرير.. بل كنا قلبها النابض”. إنها رسالة تحملها ندوة، ويجسدها باحث، وينتظرها جيل جديد يطالب بتاريخ لا يُكتب من الأعلى، بل من تفاصيل المقاومين المنسيين في الأزقة والجبال والموانئ.

هل آن الأوان لتفتح الدولة المغربية والجزائرية هذا الملف المسكوت عنه؟ أم أن “الجندي الإفريقي” سيظل شاهدًا غائبًا عن ذاكرة لا تُحب المزعجين؟

02/07/2025

Related Posts