في خرجة إعلامية مثيرة، اختار زعيم حزب “فرنسا الأبية”، جان لوك ميلونشون، أن يوجّه سهامه نحو وحدة المغرب الترابية، من قلب الجزائر هذه المرة، حيث أعلن—وبثقة مفرطة—رفضه لاعتراف بلاده بسيادة المغرب على صحرائه، مستندًا إلى تأويل مغلوط لقرارات أممية تجاوزها الزمن. تصريح لا يعكس فقط قصورًا في الفهم السياسي، بل أيضًا انجرافًا نحو الديماغوجية الموجهة، في محاولة يائسة لمغازلة النظام الجزائري.
قال ميلونشون، في مقابلة مع وسيلة إعلامية جزائرية، إنه يلتزم بـ”موقف الأمم المتحدة التي تطالب بإجراء استفتاء”، متناسيًا – أو متغافلًا – أن نفس الأمم المتحدة لم تذكر هذا الخيار منذ 2007، وأن جميع قرارات مجلس الأمن تُشيد بمبادرة الحكم الذاتي المغربية كحل جدي وواقعي. يبدو أن الرجل انتقى من القانون الدولي ما يُرضي مزاج مستقبليه، وتجاهل الباقي، وكأن الشرعية الدولية تُجزّأ على المقاس الحزبي.
ميلونشون، الذي ظلّ يُقدّم نفسه كصوت التقدّم في فرنسا، اختار أن يصدح اليوم بخطاب يعيد إنتاج ما لفظه التاريخ. موقفه لا يختلف كثيرًا عن الشعارات المعلبة التي تروجها جبهة البوليساريو في صيغتها البروباغاندية، بل ويبدو أحيانًا أكثر حماسة منها، في مفارقة تدفع للتساؤل: هل نحن أمام معارض فرنسي… أم ناطق غير رسمي باسم دبلوماسية الجزائر؟
المثير أن تصريحات زعيم “فرنسا الأبية” تأتي بعد زيارة وُصفت بالتاريخية لرئيس مجلس الشيوخ الفرنسي، جيرارد لارشي، إلى مدينة العيون، والتي شدّد خلالها على أن “الصحراء جزء من السيادة المغربية”، رغم الغضب الجزائري. وبذلك يكون ميلانشون قد وجّه انتقاده ليس فقط للمغرب، بل لبلده فرنسا أيضًا، ضاربًا عرض الحائط بتراكمات دبلوماسية ومصالح استراتيجية تم بناؤها بجهد طويل.
الرباط، كعادتها في التعاطي مع هذه الخرجات الانفعالية، التزمت الصمت، لكنها تُسجل. فمثل هذه التصريحات لا تمر دون أرشفة سياسية دقيقة، خاصة في سياق دقيق تشهده العلاقات المغربية الفرنسية، منذ أزمة استدعاء السفير المغربي بباريس مطلع هذا العام. المغرب اليوم لم يعد يتسامح مع “الازدواجية” ولا مع من يتحدث لغتين، واحدة في باريس وأخرى في الجزائر.
أما داخل فرنسا، فإن تصريحات ميلونشون لم تجد صدى واسعًا، لا إعلاميًا ولا سياسيًا، وهو ما يعكس أن “فرنسا الأبية” باتت تعيش نوعًا من العزلة السياسية، خصوصًا في الملفات الخارجية الحساسة. فالرئيس ماكرون أعاد التأكيد على دعم بلاده لمغربية الصحراء خلال زيارته للرباط في أكتوبر 2024، ومن قبله فعلت إسبانيا، ألمانيا، وهولندا… بينما ما يزال ميلانشون يعتقد أنه يعيش في سبعينيات القرن الماضي.
في النهاية، يبدو أن جان لوك ميلونشون قرّر أن يُعيد كتابة التاريخ على طريقته: يزيح الأمم المتحدة إلى الوراء، ويستحضر قرارات نُسيت حتى في أرشيف نيويورك، ويرتدي عباءة “الخبير الأممي” في قضايا لم يُكلف نفسه حتى عناء الاطلاع على تطوراتها. هو باختصار: سياسي يبحث عن جمهور… ووجده في الجزائر.
لكن السياسة يا سي ميلونشون، لا تُمارس من المنفى، ولا تُبنى على الرغبات المؤدلجة، بل على قراءة واقعية لموازين القوى، واحترام سيادة الدول، لا التطفل على شؤونها. أما الصحراء، فقد اختارها التاريخ… والمستقبل أيضًا.
06/07/2025