في خطوة تُقرأ في الرباط بمزيج من اليقظة والتحليل الاستراتيجي، أعادت إسبانيا نشر زورقها الحربي “إيسلا دي ليون” في مياه مضيق جبل طارق وبحر البوران، انطلاقاً من قاعدته في الثغر المحتل، في ما تصفه مدريد بـ”تعزيز أمنها البحري”، لكنها في الواقع تندرج ضمن تحركات عسكرية متكرّرة على مرمى حجر من المياه الإقليمية المغربية.
وتُظهر هذه الخطوة – التي تتزامن مع موسم عبور نشِط بين ضفتي المضيق – إصرار الجانب الإسباني على تأكيد حضوره العسكري في نقاط استراتيجية حسّاسة، عبر ما يُسمّى بـ”العمليات الدائمة للوجود والمراقبة والردع”، وهي تسمية قد تبدو تقنية، لكنها تندرج ضمن منطق الهيمنة والسيطرة الرمزية على ممرّات بحرية تُشكّل شرياناً حيوياً للمغرب أيضاً.
الزورق “إيسلا دي ليون”، الذي التحق بالبحرية الإسبانية سنة 2022، لا يكتفي بمهام أمنية تقليدية، بل يؤدّي دوراً سياسياً مموّهاً، باعتباره أداة لإبراز اليد الطولى لإسبانيا في خاصرة المغرب البحرية. ويتمركز هذا الزورق ضمن سرب يضمّ وحدات متمركزة في مليلية المحتلة وقرطاجنة، ما يرسم قوس مراقبة دائم يمتدّ من شرق المغرب إلى غربه.
ولا يخفى على المتابعين أن تكثيف هذا النوع من التحركات العسكرية يعكس، في العمق، رؤية إسبانية تعتبر المياه المحاذية للشواطئ المغربية فضاءً لتثبيت “نفوذ وقائي”، خصوصاً في ظل التحوّلات الجيوسياسية بالمنطقة وعودة التوتر في ملفات الحدود والهجرة والطاقة.
في المقابل، ورغم تصاعد وتيرة المناورات الإسبانية، تواصل الرباط اعتماد مقاربة هادئة، تُوازن بين ضبط النفس العسكري وتحريك القنوات الدبلوماسية عند الحاجة. ويقرأ محلّلون هذا “الصمت المغربي” لا كعلامة ضعف، بل كخيار استراتيجي يراهن على كسب الوقت وبناء مواقف تفاوضية أكثر قوة في المدى المتوسط، دون الانجرار إلى ردود فعل انفعالية.
ويبدو أن المغرب يُدرك تماماً أن الهيمنة الحقيقية في البحر لا تُبنى فقط بزوارق حربية، بل تتجسّد أيضاً في الاستثمار في موانئ عصرية، وشبكات لوجستية، وتعاون إقليمي متعدد المستويات… وهي أوراق راكمتها الرباط بصبر استراتيجي خلال السنوات الأخيرة.
إنّ عودة “إيسلا دي ليون” ليست تحركاً عسكرياً فحسب، بل تحمل دلالات سياسية واضحة. فهي تأتي في سياق مشحون بتجاذبات الجوار، من التوتر بشأن ترسيم الحدود البحرية إلى الجدل المستمر حول مستقبل الثغور المحتلة، وصولاً إلى التنافس على أدوار أمنية في غرب المتوسط.
لكن، وبين ضجيج الزوارق ومناورات الخطاب، تبقى الحقيقة الجغرافية راسخة: المغرب حاضر بقوة في المنطقة، بحكم الجوار والامتداد التاريخي والحضاري، فيما تتحرّك إسبانيا في فضاء غير خالص، حيث كل خطوة تخضع لتدقيق الحساسيات وحسابات التوازن.
قد تبدو “إيسلا دي ليون” مجرّد زورق حربي، لكنها أيضاً عنوان لصراع صامت حول من يملك حقّ النظر والتحكّم في الممرّات الحيوية جنوب المتوسط.
10/07/2025