في مشهد عابر سرعان ما تحوّل إلى لحظة فارقة، دخلت مواطنة ألمانية أحد فروع سلسلة متاجر “كرويدفات” الهولندية الشهيرة، لتكتشف أن الأسعار في هذا البلد المضيف فاقت كل توقّعاتها. ليز إيزابيل بوليتس، التي كانت تنوي فقط اقتناء بعض مستحضرات العناية الشخصية، وثّقت جولتها بهاتفها المحمول، لتتحوّل في أقل من 24 ساعة إلى حديث المنصات الرقمية، بعد أن كشفت بالأرقام كيف أن أسعار المنتجات اليومية في هولندا تبلغ تقريبًا ضعف ما يدفعه المستهلك الألماني مقابل نفس العلامات التجارية.
تقول بوليتس، وهي تشير إلى عبوة شامبو جاف معروضة بسعر 7.99 يورو: “أشتري هذه العبوة من ألمانيا بـ 3.75 فقط!”، ثم تُتابع مستنكرة كيف أن معجون الأسنان من “المكس”، وشامبو “شفارتسكوف”، ومزيل العرق من “نيقيا”، وحتى الفوط الصحية والسدادات القطنية، كلها تباع في هولندا بأسعار “مجنونة” تفوق المعقول والمنطق. تساؤلها العفوي أمام الكاميرا: “هل نحن في سويسرا؟” تحوّل إلى صرخة استهلاكية عابرة للحدود، أعادت فتح ملف العدالة السعرية داخل الاتحاد الأوروبي الذي يُفترض أنه يوفّر سوقاً موحّدة.
وفيما اعتبر البعض أن الفيديو مجرد مقارنة انفعالية، عزّز تقرير رسمي صادر عن جمعية حماية المستهلك الهولندية مصداقية ما طرحته بوليتس، مؤكّدًا أن أسعار السلع الأساسية في هولندا تُعد من الأعلى أوروبيًا، إذ كشف أن الأسعار في بلجيكا أرخص بـ 12%، وفي ألمانيا بـ 15%، بينما يصل الفرق في فرنسا إلى 20%، خاصة فيما يتعلق بالعلامات التجارية العالمية التي من المفترض أن تحتفظ بثبات سعرها عبر الدول.
لكن ما أغفلته أغلب التغطيات الإعلامية هو أن ما اعتبرته بوليتس “مفاجأة مؤقتة”، يشكّل واقعًا يوميًا خانقًا لآلاف الأسر المهاجرة المقيمة في هولندا، وفي مقدّمتها الجالية المغربية. فبينما يستطيع الزوار الألمان التذمّر والعودة إلى وطنهم، يعيش المهاجرون مع هذه الأسعار كقدر لا فكاك منه، يلتهم دخولهم المحدودة ويهدد أمنهم المعيشي. كثير من الأسر المغربية تجد نفسها مضطرة للاختيار بين الجودة والتكلفة، وبين الحاجيات الضرورية والقدرة على دفع فواتير السكن والطاقة والرعاية.
لم تعد “رحلات التسوّق” بالنسبة لهؤلاء رفاهية أو حتى خياراً، بل امتدادًا يوميًا لصراع غير متكافئ مع تكلفة المعيشة، حيث تعجز الأجور الضعيفة عن مواكبة الغلاء، وسط صمت حكومي مطبق، وسياسات اقتصادية تزداد انحيازاً للربح على حساب الفئات الهشة. بل إن البعض من أبناء الجالية صار يسافر إلى بلجيكا أو ألمانيا لاقتناء الحاجيات الأساسية، في “هجرة استهلاكية” صامتة تفضح فشل السوق الموحدة في حماية المستهلك الأضعف.
التعليقات على الفيديو تراوحت بين الغضب والسخرية، حيث كتب أحد المتابعين: “ربما يدفع الهولنديون ثمن الطواحين والزهور!”، فيما تساءل آخر: “هل الهواء أغلى في هولندا؟”. لكن وسط الضجيج الإلكتروني، ظهرت دعوات جادة لإعادة النظر في سياسات التسعير الأوروبية، ولإنصاف المستهلكين الذين لم يعودوا قادرين على تحمّل هوامش الربح الفاحشة.
السؤال الذي طرحته بوليتس بلسانها الألماني، بات اليوم لسان حال آلاف المهاجرين: “لماذا ندفع أكثر مقابل نفس المنتجات؟”.
هل السبب هو الضرائب المرتفعة؟ أم احتكار السوق من قبل سلاسل التوزيع الكبرى؟ أم غياب رقابة حقيقية على تسعير العلامات التجارية العابرة للحدود؟
السلطات الهولندية، حتى الآن، تختار الصمت، وكأن الأمر لا يعنيها. لكن الصدمة التي فجّرتها مواطنة ألمانية عبر فيديو عفوي، كانت كافية لتكشف واقعًا اقتصادياً مختلًّا، يدفع ثمنه الفقراء والعمال والمهاجرون… بصمت.
10/07/2025