بينما يواصل حزب “ڤوكس” اليميني المتطرف تأجيج الخطاب المناهض للأجانب، تُظهر البيانات صورة أكثر تعقيدًا وأقل انسياقًا خلف الشعارات السياسية. أكثر من تسعة ملايين شخص في إسبانيا اليوم وُلدوا خارج البلاد، أي ما يقارب واحداً من كل خمسة سكان. نحو 30% منهم باتوا يحملون الجنسية الإسبانية، فيما يشكّل أبناء المهاجرين الجيل الصاعد: مليون ونصف طفل وُلدوا على التراب الإسباني لأب أو أم أجنبيين. أرقام تختزل تحوّلاً ديمغرافيًّا عميقًا يطال كل زاوية في المجتمع الإسباني.
منذ مطلع الألفية، تحوّلت إسبانيا من بلد شبه متجانس إلى بلد متعدّد المكونات بوتيرة غير مسبوقة. ففي عام 2002، لم يكن الأجانب يُمثّلون سوى 5.6% من السكان. أما اليوم، فهم على عتبة 19%. هذا التحوّل لم يأتِ دفعة واحدة: بعد صعود سريع، تراجع نسبيًّا بفعل الأزمة الاقتصادية عام 2008، ثم عاد بقوة بدءاً من 2015. ومن أصل 9.3 ملايين مهاجر، تجاوز الثلاثة ملايين منهم عقبة التجنيس، فيما حافظ نحو 6 ملايين آخرين على جنسياتهم الأصلية.
اللاتينيون يشكلون العمود الفقري للهجرة إلى إسبانيا، يأتون من كولومبيا، فنزويلا، الإكوادور، وبيرو، مستفيدين من روابط اللغة والثقافة، ليستقرّ معظمهم في مدريد وكتالونيا. يليهم القادمون من دول الاتحاد الأوروبي، ثم من القارة الإفريقية. المغاربة يتصدّرون قائمة الجاليات بأكثر من مليون مقيم، مع تزايد لافت في أعداد الكولومبيين والفنزويليين بعد جائحة كورونا. أما القادمون من إفريقيا، فيتركزون في المناطق الزراعية مثل ألمرية ومورسيا، حيث يشكّلون العمود الفقري لمواسم الحصاد.
بعيداً عن الأرقام المجردة، تبدو مساهمة المهاجرين جلية في تركيبة الفئة النشيطة ديمغرافيًّا. إذ تبيّن المعطيات أن 73% من الأجانب في إسبانيا تتراوح أعمارهم بين 20 و64 عاماً، مقارنة بـ53% فقط من السكان المولودين محلياً. كما أن الأجيال الجديدة من أبناء المهاجرين باتت رقماً وازناً: نحو 1.5 مليون طفل دون سن 17 عاماً ينتمون إلى هذا الجيل، منهم 391 ألفاً لم يتجاوزوا سن الثالثة. ما يعني أن ربع المواليد الجدد في إسبانيا لديهم على الأقل أحد الأبوين من أصل أجنبي، ما يعيد تشكيل هرم العمر السكاني ويضخ دماءً جديدة في مجتمع يتقدّم في السن.
جغرافيًّا، يتمركز نصف المهاجرين في خمس مناطق: مدريد، برشلونة، ڤالنسيا، أليكانتي، وجزر البليار. وفي بعض هذه المحافظات، يشكل الأجانب أكثر من 25% من السكان، كما هو الحال في أليكانتي وجيرونا، الصورة مختلفة تماماً، حيث 90% من الأجانب من أصول إفريقية، في دلالة على موقعها الحدودي وطبيعة العبور منها.
أما في سوق العمل، فيبدو تأثير المهاجرين حاسمًا. في ماي 2025، تجاوز عدد الأجانب المسجلين في الضمان الاجتماعي 3 ملايين لأول مرة. وهم يشكّلون 14% من القوة العاملة النشطة، النسبة ذاتها تقريباً من السكان في الفئة العمرية المنتجة. غير أن التوزيع ليس متساويًا في كل القطاعات: في الضيافة، يشكّلون 28% من العمال، معظمهم من خارج الاتحاد الأوروبي، و20% في البناء، مقابل تمثيل ضعيف في التعليم (5%) والخدمات المالية (5.2%).
لكن اللافت، وربما المقلق، هو أن أكثر من نصف المهاجرين الحاصلين على شهادات جامعية يعملون في وظائف أدنى من مستواهم الأكاديمي، ما يكشف عن خلل في استيعاب الكفاءات الأجنبية ويطرح تساؤلات حول جدوى السياسات الاندماجية.
على مستوى القارة، لم تكن إسبانيا استثناءً. فهي تحتل المرتبة الخامسة أوروبيًا من حيث نسبة السكان الأجانب، متقدمة على فرنسا وإيطاليا، ومتأخرة فقط عن النمسا والسويد وألمانيا وبلجيكا. وإذا استُثني القادمون من دول أوروبا، تقف إسبانيا في المركز الثاني بفضل ثقل الهجرة من أمريكا اللاتينية، وهو ما يمنحها طابعًا فريدًا مقارنة بجيرانها الشماليين.
في المحصلة، تُظهر هذه الأرقام أن الهجرة ليست “أزمة” كما يصوّرها بعض الساسة، بل تحوّل بنيوي يعيد رسم ملامح إسبانيا الحديثة. الهجرة ليست عبئاً، بل فرصة: لتجديد المجتمع، تعزيز الاقتصاد، ومواجهة الشيخوخة الديمغرافية. وما بين من يتحدث عن “ترحيل”، ومن يروّج لـ”تهديد الهوية”، هناك واقع يومي أكثر بساطة وصدقاً: مهاجرون يعملون، أطفال يولدون، وجيل جديد يُعيد تعريف معنى “أن تكون إسبانيًّا”.