في خطوة مفاجئة أعادت الجدل حول روح الاتحاد الأوروبي، قررت بولندا مؤخرًا فرض رقابة حدودية على القادمين برًّا من ألمانيا وليتوانيا، استجابةً لضغوط اليمين المتطرف الذي بات يُملي توجهات السياسة الداخلية في وارسو. خطوةٌ أعادت إلى الواجهة أحد أعظم إنجازات التكامل الأوروبي: اتفاقية شنغن.
هذا الاتفاق، الذي أُبرِم قبل أربعين عامًا بالضبط، كان تجسيدًا لفكرة أوروبا بلا حدود داخلية، مساحةٌ من 4.6 ملايين كيلومتر مربع يعيش فيها أكثر من 450 مليون نسمة، يتنقلون ويعيشون ويتاجرون دون حواجز ولا نقاط تفتيش. وقد أحدث هذا التحول ثورةً حقيقية في مناطق حدودية مزّقتها الأسلاك الشائكة وقسمت قرى وأسرًا نصفين لعقود طويلة.
لكن مع تصاعد الخطاب الشعبوي الذي يربط بين الهجرة والجريمة، صار هذا الإنجاز مهددًا أكثر من أي وقت مضى. بولندا اليوم تحذو حذو ألمانيا، التي أعادت هي الأخرى بعض القيود قبل عام تحت ضغط صعود حزب «البديل من أجل ألمانيا» اليميني المتطرف، في مشهد يُظهر كيف تستسلم حكومات أوروبية لضغوط انتخابية قصيرة النظر على حساب مشروع الوحدة القارية.
لا يمكن إنكار حق الدول في تنظيم حدودها، لكن شنغن لم يأتِ ليُلغي هذا الحق، بل ليجعله أكثر فاعلية من خلال التعاون الأمني وأوامر الاعتقال الأوروبية وسياسة التأشيرات الموحدة وغيرها من الأدوات التي تجعل من أوروبا فضاءً أكثر أمانًا وانفتاحًا في آنٍ معًا.
المقلق أن الرقابة الحدودية تُستخدم اليوم كسلاح سياسي داخلي لإرضاء شرائح من الناخبين، حتى دون تهديدات ملموسة أو موجات نزوح طارئة. النتيجة: إضعاف ثقة المواطن الأوروبي بفكرة التكامل، وإفساح المجال أمام من يختزلون الحريات في فزاعات أمنية انتخابية.
ورغم هذه الرياح العكسية، لا تزال دول مثل قبرص تسعى جاهدة للانضمام الكامل إلى فضاء شنغن، متشبثةً بحلم أوروبا المفتوحة التي لا تُفرّق بين مواطنيها. انضمام رومانيا وبلغاريا مطلع هذا العام كان انتصارًا مؤجلًا طال انتظاره، رغم العقبات التي وضعتها دولٌ مثل النمسا خوفًا من «فيض المهاجرين».
إن التضحية بروح شنغن لأسباب سياسية داخلية قصيرة الأجل، هو مقامرة بمصير مشروع أوروبي بُنِيَ على فكرة الاتحاد لا التشرذم، والانفتاح لا الانغلاق. وأوروبا التي تُفرّط في شنغن اليوم، ستجد نفسها غدًا أقل اتحادًا، أقل انفتاحًا، وأقل قدرةً على الصمود أمام الأزمات الحقيقية.
12/07/2025