kawalisrif@hotmail.com

إسبانيا في نواكشوط :    حين يعترف سانشيز بدين الاقتصاد الإسباني للمهاجرين… والمغرب يقرأ التحول بعين استراتيجية !

إسبانيا في نواكشوط : حين يعترف سانشيز بدين الاقتصاد الإسباني للمهاجرين… والمغرب يقرأ التحول بعين استراتيجية !

في لحظة سياسية لافتة، تحوّلت العاصمة الموريتانية نواكشوط يوم 16 يوليوز 2025 إلى مسرح لتحوّل غير تقليدي في علاقة أوروبا بجوارها الإفريقي. رئيس الحكومة الإسبانية، بيدرو سانشيث، حلّ رفقة سبعة من وزرائه في زيارة رسمية تُعدّ الأولى من نوعها بهذا المستوى، جمعت مدريد ونواكشوط في قمة رفيعة المستوى.

ورغم الطابع الأمني والتنموي الذي وسم أجندة اللقاء، لم يُخفِ سانشيث الرسالة الحقيقية بين السطور، حين صرّح من قلب نواكشوط

“إسبانيا كانت بلدًا يصدّر المهاجرين، واليوم، التقدم والوضعية الاقتصادية المزيانة اللي عايشينها، كترجع بزاف للمهاجرين اللي كيخدمو وكيعطيو من جهدهم داخل البلاد.”
هذا الاعتراف الصريح لم يكن مجرد مجاملة بروتوكولية، بل خطوة سياسية مدروسة تعكس تحولاً في الخطاب الأوروبي تجاه الهجرة، خصوصاً مع إعلان مدريد إطلاق برنامج للهجرة الدائرية، سيمكن هذا العام نحو 50 عاملاً موريتانياً من العمل المؤقت والشرعي في إسبانيا. وهو ما يؤشر على تحوّل تدريجي في الرؤية الأوروبية: من الهجرة كعبء، إلى الهجرة كرافعة اقتصادية وتنموية.

من الرباط، لا يُقرأ هذا التحوّل سوى كفرصة استراتيجية لتعزيز دور المغرب كفاعل محوري في معادلة الهجرة والتنمية. فقد راكمت المملكة تجربة عميقة في تدبير الهجرة الموسمية، خاصة في قطاع الفلاحة بجنوب إسبانيا، ضمن شراكات نموذجية حافظت على كرامة العامل وأنتجت منفعة مزدوجة لدول الأصل والاستقبال.

ومع توجه مدريد نحو تكرار هذا النموذج مع موريتانيا، يجد المغرب نفسه أمام لحظة نضج دبلوماسي تُمكّنه من تأطير التحوّل الإقليمي، كجسر ذكي بين إفريقيا وأوروبا، يزاوج بين ضبط الحدود وفتح آفاق التنمية المستدامة. فالرؤية المغربية للهجرة لم تعد أمنية محضة، بل تُدمج الإدماج الاجتماعي وحقوق الإنسان ضمن سياسات عقلانية وواقعية.

هذه الدينامية الجديدة التي تتبلور في نواكشوط تعيد طرح السؤال الكبير: هل آن الأوان أن تتحول إفريقيا من “ممر عبور” إلى “شريك قرار”؟ المغرب، بدوره، طالما دافع عن هذا التحول. فالهجرة حين تؤطرها الحكامة والعدالة، لا تكون نزيفاً ديموغرافياً، بل فرصة لبناء جسور تنموية صلبة، تعيد الاعتبار للإنسان كمحور لكل تعاون.

وفي هذا السياق، تبرز مشاريع التكوين المهني، الطاقات المتجددة، والخدمات الاجتماعية كقطاعات يمكن للهجرة الدائرية أن تدعمها، ليس فقط في أوروبا، بل داخل القارة نفسها، ضمن مقاربة جنوب–جنوب متقدمة.

التحولات في السياسات الأوروبية تجاه الهجرة يجب أن تقترن باعتراف جوهري: الهجرة ليست فقط تنقلاً جغرافياً، بل حركة كرامة وحقوق ومسؤوليات مشتركة. المغرب، بخبرته التفاوضية مع الاتحاد الأوروبي، يعي جيدًا أن المقاربات الأمنية ليست كافية، بل قد تكون أحيانًا عائقاً أمام الحلول المستدامة.

ما تحتاجه المنطقة هو تنسيق إقليمي ذكي، يضمن حماية المهاجرين، يُعزّز دور المجتمعات المستقبِلة، ويُعيد صياغة العلاقة مع الهجرة بعيداً عن ثنائية “التهديد والأمن”، نحو “الفرصة والكرامة”.

زيارة سانشيث إلى نواكشوط تضعنا أمام ملامح شراكة ثلاثية تتشكل بين الرباط ومدريد ونواكشوط. ليست مجرد آلية للحد من الهجرة غير النظامية، بل مشروع تنموي جماعي يعيد صياغة العلاقة بين الضفتين، على أسس أكثر عدلاً وواقعية.

الهجرة الدائرية، في هذا السياق، تتحول إلى آلية تشغيل منتجة ومحمية، وجسر للتعاون في مجالات البيئة، الاقتصاد الأخضر، التكوين المهني، والخدمات الاجتماعية. شرط النجاح؟ الإرادة السياسية، العدالة في توزيع الفوائد، وإشراك فعلي للمجتمعات.

تصريح سانشيث ليس مجاملة، بل تحوّل في العقلية الأوروبية تجاه دور المهاجرين في بناء الاقتصاد الحديث.

نموذج الهجرة الدائرية كما تتبناه الرباط ومدريد يُجسد معادلة نادرة: بين حاجة سوق العمل وضمان الكرامة الإنسانية.

المغرب ليس فقط شريكاً في هذه الدينامية، بل مهندس استراتيجي قادر على توجيهها نحو مقاربة إقليمية عادلة، مسؤولة، وإنسانية.

اليوم، أكثر من أي وقت مضى، تبدو الحاجة ماسة إلى:

–  تأسيس إطار مغاربي موحد للهجرة والتنمية
–  يُرسخ مبدأ الهجرة الشرعية كرافعة اقتصادية واجتماعية
–  يُعيد الاعتبار للكرامة كقيمة غير قابلة للتفاوض
– ويجعل من إفريقيا شريكاً فاعلاً في صياغة مستقبل العلاقة مع أوروبا

هكذا فقط يمكن للجنوب أن يتحدث بصوته، ويُفاوض بندّية، ويقود من الرباط ونواكشوط تحوّلاً عميقًا في اتجاه مدريد وبروكسيل… جنوب يقود، لا يُقاد.

16/07/2025

Related Posts