في خطوة تعكس واقع السياسة الواقعية البحتة وتجاوز منطق المبادئ المعلنة، أطلقت الولايات المتحدة وفنزويلا، اليوم الجمعة، واحدة من أكثر صفقات التبادل حساسية وإثارة للجدل في تاريخ العلاقات المتوترة بين البلدين، حيث تم التوافق على تبادل 80 معتقلًا سياسيًا فنزويليًا و10 محتجزين أمريكيين، مقابل ترحيل 238 فنزويليًا إلى سجن مشدد الحراسة في السلفادور، تديره سلطات الرئيس السلفادوري نجيب بوكيلي، المعروف بسياساته المتطرفة في ملف الأمن.
هذه الصفقة، التي تمت بعد مفاوضات شاقة شهدت تأجيلًا لمرتين بسبب خلافات بين وزير الخارجية الأمريكي ماركو روبيو والمبعوث الخاص ريك گرينيل، عكست عمق الصراع داخل دوائر القرار الأمريكي بشأن كيفية إدارة الملفات المتعلقة بفنزويلا، وخصوصًا في سياق تصاعد التوترات مع محور نفوذ روسي – صيني متزايد في أمريكا اللاتينية.
مصادر دبلوماسية مطلعة أكدت أن الصفقة لم تكن محض عملية إنسانية، بل تندرج ضمن رؤية استراتيجية أمريكية لإعادة فتح قنوات ضغط على النظام البوليفاري في كاراكاس، وإعادة ترتيب التوازنات في المنطقة. ويكتسي إطلاق سراح ثلاثة من أبرز قادة المعارضة الفنزويلية بعدًا رمزيًا وسياسيًا كبيرًا، إذ يمثل هؤلاء أطيافًا مختلفة من الطيف الديمقراطي المناهض لحكم مادورو، ويتزعمون تيارات “العدالة أولًا”، و”زمن جديد”، و”العمل الديمقراطي”.
في المقابل، فإن تسليم 238 معتقلًا إلى سجن السلفادور أثار موجة تنديد حقوقية، خصوصًا وأن تقارير متعددة كشفت أن غالبيتهم مجرد مهاجرين لا علاقة لهم بالعصابات الإجرامية مثل “ترين دي أراگوا”، بل جرى استخدامهم كورقة مساومة سياسية تحت غطاء مكافحة الجريمة المنظمة.
التحقيقات الصحفية، وشهادات عائلات المعتقلين، كشفت عن ممارسات تنتهك مبادئ العدالة، حيث تم توريط عدد من المرحّلين في ملفات أمنية مبنية على الشبهات أو الانتماءات الجغرافية فقط. ويأتي ترحيلهم إلى سجن بوكيلي، الذي يُعرف عالميًا بسجلاته القمعية وتنكيله بالمعتقلين، ليجسد نوعًا جديدًا من “الترحيل العقابي”، تستخدمه دول كبرى لأهداف سياسية تتجاوز أطر القانون الدولي.
على الرغم من الإفراج عن خمسة مواطنين أمريكيين وخمسة مقيمين دائمين في الولايات المتحدة، وهي خطوة ذات طابع إنساني، إلا أن هذا الجانب لا يُمكن فصله عن الطابع التفاوضي الذي تحكم في تصميم الصفقة، والذي يُتوقع أن يمتد ليشمل تخفيفًا جزئيًا في العقوبات النفطية المفروضة على فنزويلا، في مقابل خطوات متدرجة من النظام في كاراكاس بشأن الانفتاح السياسي والاقتصادي.
هذه الصفقة تميط اللثام عن الاستخدام المتكرر لملفات المهاجرين والسجناء واللاجئين كورقة تفاوض في الأجندات الجيوسياسية للدول الكبرى، حيث تُختزل حقوق الإنسان في حسابات الربح والخسارة. وفي الوقت الذي تروج فيه واشنطن لشعارات “الحرية والديمقراطية”، تثبت الأحداث أن مصالح الطاقة والتحالفات الأمنية تظل فوق كل اعتبار.
هذه الصفقة تشكل درسًا للدول النامية والمهمّشة، وعلى رأسها بلدان الجنوب، بشأن خطورة ربط مصير الأفراد والنخب المعارضة والهجرة غير النظامية بتجاذبات القوى الكبرى. كما تُبرز الحاجة إلى بناء عدالة دولية حقيقية ومستقلة، لا تُختزل في قرارات ثنائية تتجاهل أبسط حقوق من لا يملكون سلطة ولا جنسية نافذة.
18/07/2025