kawalisrif@hotmail.com

ملف “جزيرة ليلى” المغربية وورطة “الحياد النشط” :    إسبانيا بين مأزق الذاكرة ومطالب المسؤولية التاريخية

ملف “جزيرة ليلى” المغربية وورطة “الحياد النشط” : إسبانيا بين مأزق الذاكرة ومطالب المسؤولية التاريخية

في كل صيف سياسي تعود الصحافة الإسبانية إلى تقليب ملفاتها التاريخية العالقة، في محاولة لتفسير تراجع الدور الدولي لإسبانيا، أو تبرير عجزها عن حسم عدد من النزاعات الترابية، والتي تُعد علاقاتها مع المغرب مركز ثقلها. لكن صيف 2025 حمل معه إشارتين مهمتين تستحقان الوقوف: عودة قضية جزيرة “بيريخيل” إلى السطح عبر مسلسل تلفزيوني، وتطورات ملف الصحراء التي تؤكد من جديد أن الرباط تتحرك بخطى واثقة، بينما تكتفي مدريد بالمراقبة وبترديد لأزمة “الحياد النشط”.

وإذا كانت قضايا مثل سبتة ومليلية المحتلتين، والجزر الصخرية المتنازع عليها، ظلت حبيسة دوائر مغلقة داخل الأجهزة الإسبانية، فإن تعاطي الرأي العام الإسباني مع ملف الصحراء يكشف خللًا عميقًا في فهم التحولات الإقليمية وطبيعة النظام المغربي ذاته. فبينما ينشغل الإعلام الإسباني بخطابات الحنين إلى دور مفقود، تُعيد الرباط رسم توازنات إقليمية وتحقيق مكاسب سياسية ودبلوماسية، بفضل ما يمكن وصفه بـ”الدبلوماسية الملكية النشطة”، التي يقودها الملك محمد السادس بثقة وجرأة.

في المقابل، تكشف حالة التردد والعجز التي تعيشها السياسة الخارجية الإسبانية عن فشل ذريع في التوفيق بين الأولويات الداخلية والمسؤوليات الدولية. إذ بدل أن تتعامل إسبانيا مع المغرب كفاعل إقليمي محوري وتاريخي، لا تزال تنظر إليه بعين الريبة، وتعتمد سياسة دفاعية مرتبكة تُدار من “لا مونكلوا” بمنطق رد الفعل لا المبادرة، كما وصفها المحلل الإسباني أنخيل باليستيروس بمرارة.

وبالعودة إلى قضية جزيرة “ليلى- بيريخيل”، فإن التعامل الإسباني معها في يوليوز 2002 يعكس حجم الإرباك البنيوي الذي يطبع القرار في مدريد، سواء من حيث اللجوء إلى القوة المفرطة ضد جنود مغاربة غير مسلحين، أو من خلال السردية الانفعالية التي رافقت الأزمة. والأدهى أن هذا التصعيد تم في وقت كانت فيه الرباط منغمسة في احتفالات زفاف ملكها الجديد، وهي إشارة تطرح تساؤلات حول دلالات التوقيت، ونوايا المؤسسة العسكرية الإسبانية التي اتسمت حينها بطابع استرجاعي واضح.

أما على صعيد ملف الصحراء، فإن التغيّر الأخير في الموقف الإسباني الرسمي، والذي اقترب لأول مرة من الاعتراف الضمني بسيادة المغرب على صحرائه، لم يكن نتيجة “حياد نشط” ولا نقاش مؤسساتي، بل جاء بفعل “دبلوماسية سرية” فرضتها دينامية الرباط في المحافل الدولية، بدعم واضح من واشنطن وباريس. وهو تحول لم تستطع النخب الإسبانية استيعابه، ما جعلها تنكفئ إلى خطاب الحنين، والدعوة للعودة إلى مواقف رمادية فقدت صلاحيتها.

لكن المغرب لا يبدو معنيًا اليوم بمجاراة إسبانيا في انفعالاتها السياسية، فهو يتحرك بمنطق الدولة ذات السيادة، والمؤمنة بحقها التاريخي والقانوني في صحرائها، وهو ما جعل مقترح الحكم الذاتي يحظى باعتراف أممي واسع. بل إن الرباط، وبدل أن تنتظر رد فعل مدريد، هي من أصبحت تُحرجها عبر تحالفاتها المتزايدة داخل إفريقيا وأوروبا وأمريكا اللاتينية.

ومع ذلك، لا يطلب المغرب من إسبانيا سوى شيء واحد: الاعتراف بمسؤوليتها التاريخية كقوة استعمارية سابقة، والكف عن استخدام شعارات “الحياد النشط” كذريعة للتهرب من هذه المسؤولية. أما محاولات جرّ الرباط إلى أزمة مفتوحة حول جزيرة صخرية أو مجسم تاريخي، فهي لا تعدو أن تكون استعراضات ظرفية تؤكد عجز مدريد عن التعامل بنديّة مع جارها الجنوبي.

ما يجهله كثير من الساسة في مدريد هو أن المغرب لم يعد هو المغرب. فالمملكة اليوم تقود تحولًا مؤسساتيًا هادئًا، وتتمتع باستقرار سياسي نادر في محيط مضطرب، بينما تستثمر رأس مالها الرمزي والديني والتاريخي في بناء نفوذ إفريقي متصاعد، وتقود مبادرات استراتيجية في الأمن الغذائي والمائي والطاقي. وكل ذلك تحت قيادة ملكية صارمة وحاسمة، ترى أن ملف الصحراء ليس فقط قضية ترابية، بل جوهر الدولة نفسها.

لذلك، فإن أي محاولة للمراهنة على تراجع مغربي، أو على انقسام داخلي حول الصحراء، هو سوء تقدير قاتل، لن يؤدي سوى إلى إضعاف الدور الإسباني أكثر فأكثر. بل إن المملكة المغربية لا تنتظر من مدريد سوى أن تتحلى بالشجاعة السياسية وتقول الحقيقة كما هي: الصحراء مغربية، وإسبانيا تعرف ذلك جيدًا.

وفي انتظار أن تنضج النخب الإسبانية لفهم هذه الحقيقة، سيواصل المغرب تعزيز موقعه في النظام الدولي، بصمت وصرامة. فالشرعية التاريخية لا تموت، والدبلوماسية ليست “علماً دقيقاً”، لكنها حين تُبنى على الإنصاف، تكون أكثر تأثيرًا من كل حاملات الجنود والأساطيل.

وفي الختام، يبدو أن إسبانيا ستواصل على الدوام دورة “الحياد النشط” المتقلبة، هذا المصطلح الذي يشبه إلى حد كبير شخصًا يمدّ يده للقبض على عصا وهمية في الظلام. فبينما تتمنى مدريد أن تستعيد أمجادها الإمبراطورية عبر المزايدات الدبلوماسية والوشوشات السرية، يكتفي المغرب بمشاهدة المسرحية من بعيد، يبتسم بهدوء، ويُعد العدة للفصل التالي من مسلسل “العالم الحقيقي”. فربما يحين يوم تصحو إسبانيا من حلم الماضي، وتكتشف أن السياسة الخارجية ليست مجرد إيماءات وأقوال جوفاء، بل فن يتطلب قرارات جريئة ومسؤولية تاريخية – وليس فقط “حيادًا” مشكوكًا فيه.

18/07/2025

Related Posts