رغم محاولات بعض الجهات تصوير الوجود الإسلامي في إسبانيا كظاهرة دخيلة أو تهديد ثقافي، فإن الأرقام تكشف واقعًا أعمق يرتبط بامتداد الجالية المغربية وجذورها التاريخية والاجتماعية. فقد تجاوز عدد دور العبادة الإسلامية في إسبانيا 1.700 مسجد ومصلى، بحسب بيانات «اتحاد الجمعيات الإسلامية في إسبانيا» (UCIDE)، وسط تزايد سنوي يعكس استقرارًا نسبيًا لجالية مسلمة يُقدَّر عددها بحوالي 2.5 مليون نسمة.
ويُعد المغاربة العمود الفقري لهذه الجالية؛ إذ يتجاوز عددهم 870 ألف مقيم من أصل أجنبي، بينما ارتفع عدد المسلمين الحاصلين على الجنسية الإسبانية إلى أكثر من نصف مليون خلال السنوات الأخيرة، في ظل موجات التجنيس وولادة أجيال جديدة من أبناء وأحفاد المهاجرين الذين صاروا جزءًا من النسيج الاجتماعي الإسباني.
تُظهر الإحصائيات أن أكبر تجمعات المسلمين تتمركز في كاتالونيا والأندلس ومدريد، بينما تبرز مدن مثل مورسيا و«صال» في خيرونا في واجهة النقاش العام بسبب تنامي المراكز الإسلامية فيها، وهو ما يعكس مطالبة هذه المجتمعات بحقها في ممارسة شعائرها الدينية وفق القانون الإسباني الذي يكفل حرية المعتقد.
ومع هذا الامتداد الديموغرافي، يُسجّل مراقبون ارتفاعًا ملحوظًا في أعداد الطلبة الملتحقين بحصص التربية الدينية الإسلامية، إلى جانب زيادة عدد الأساتذة المكلّفين بتدريسها في المدارس العمومية، ما يعبّر عن تمسّك الأسر المسلمة بهويتها الثقافية والدينية في مجتمع متعدد الأعراق.
لكن في المقابل، يبرز تحدٍّ آخر يتمثل في محاولات تيارات دينية وافدة نشر فكر متشدّد يغذي بؤرًا وهابية وسلفية، بدعم غير مباشر من بعض الإغراءات الخليجية أو الدوائر التي توظّف المال لنشر قراءات مغتربة عن روح التدين المغربي المعتدل. ورغم ذلك، ما زال المغرب الرسمي والديني يعمل على التصدي لهذه المحاولات بترسيخ المرجعية المالكية الأشعرية كحاضنة روحية توازن بين الاعتدال والوسطية، وهو ما يشكّل درعًا ثقافيًا ودينيًا يحمي أبناء الجالية من تيارات التطرف أو التشيّع الذي تسعى بعض الجهات الشرقية إلى زرعه مستغلّة الهشاشة الفكرية لدى بعض الفئات.
وفي هذا السياق، تبرز مدينة مليلية المحتلة كمثال حي على هذا الامتداد المزدوج؛ إذ تحتفظ وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية المغربية بوقفٍ داخل المدينة يتمثل في مسجد تاريخي يضم مرافق خاصة وحمّامًا شعبيًا، ويُدار بميزانية الوقف (الحبوس)، لكن هذا الوقف شهد في السنوات الأخيرة صراعًا محتدمًا وتصدعات داخل لجنة التسيير، بين محاولات المحافظة على طابعه كعنوان للسيادة الروحية المغربية ومساعٍ من أطراف أخرى لانتزاعه أو تحييده عن وظيفته الأصيلة.
ولم يغب هذا الامتداد الروحي عن أعين السلطات الإسبانية التي تراقب عن كثب دور المغرب في تأطير الأئمة وضمان عدم ترك الفراغ أمام تغلغل المدّ السلفي أو الشيعي، خصوصًا في ظل التجاذبات الدبلوماسية بين مدريد والرباط من جهة، ومحاولات الجارة الشرقية استغلال ورقة الدين لتغذية الانقسام أو التشويش على الروابط العريقة بين المغرب ومسلميه في الضفة الشمالية.
غير أنّ بعض المنابر الإسبانية، خاصة المحسوبة على التيار اليميني، لا تتردّد في ربط هذا الامتداد بتنامي ظواهر التطرّف أو العنف المنسوب لمجموعات معزولة، لتغذية خطاب التخويف من «أسلمة» المجتمع الإسباني، متجاهلة في الغالب جذور هذه الجاليات ودورها الإيجابي في الاقتصاد المحلي وفي إثراء التنوّع الثقافي.
وفي مشهد عمراني كان خاليًا من المآذن لقرون، تعود المساجد لتتوزع من جديد كعنوان لحضورٍ لا يمكن تجاهله: جالية مغربية ومغاربية تُرسّخ أقدامها جيلًا بعد جيل، متحدّيةً الصور النمطية والتوظيفات السياسية المغرضة، وحاملةً معها مذهبًا مالكيًا معتدلًا يواجه محاولات التشويه والانحراف عن ثوابت الإسلام الوسطي.
أما في تفاصيل التوزيع، فتتصدّر برشلونة القائمة بـ171 مسجدًا ومصلى، تليها مدريد بـ122، ثم مورسيا بـ97 وأليكانتي بـ72، بينما تحتل ڤالنسيا المركز الخامس بـ95 دارًا للعبادة. وتبرز مدن مثل طوليدو (طُلَيْطِلَة) بـ51، وألميريا بـ50، وخيرونا بـ48، وتاراغونا بـ42، وسرقسطة بـ40، إضافة إلى مالقة بـ38 وغرناطة بـ36. في الشمال، تضم بلباو 28، وسان سباستيان 25، وپنپلونة 30، ولوغرونيو 22. أما في الجنوب، فنجد قرطبة بـ21، وقادش بـ20، وإشبيلية بـ17، فيما تسجل سيوداد ريال 18، وخاين 14، وكاسيريس 13، وسانتا كروز دي تينيريفي 12. كما تنتشر المساجد أيضًا في مدن أصغر مثل هويسكا وبورغوس بـ10 لكلٍ منهما، وأوڤييدو وباداخوس بـ9، وأفيلا بـ8، وكوينكا بـ7، إلى جانب لاكورونيا وبونتيڤيدرا بـ7 أيضًا، وزامورا وسلامنكا بـ2 فقط لكلٍ منهما. أما الجزر، فتبرز پالما دي مايوركا التي تحتضن 57 مسجدًا، ولاس بالماس بـ33، في صورة تعكس الامتداد الواسع للجالية المسلمة في كامل التراب الإسباني.
وفي المقابل، تحافظ سبتة المغربية المحتلة على حضورٍ لافت بـ59 دارًا للعبادة، وتؤامها مليلية السليبة بـ13 مسجدًا، لتؤكدا بدورهما عمق الارتباط المغربي الذي ظل عصيًا على محاولات الطمس والتشويه.
وبينما يواصل اليمين المتطرف رفع فزّاعة «أسلمة إسبانيا» عند كل موسم انتخابي، يبدو أن المآذن التي يخشونها لن تسقط على رؤوسهم، بل على الأرجح ستظل شامخة لتذكّرهم بأن التاريخ أطول من خطاباتهم القصيرة، وأن هوية الملايين من أبناء الجالية المغربية لا تحتاج إذنًا من أحد كي تصلي في بيتٍ من بيوت الله… أو ألفٍ وسبعمائة بيت، وأكثر.
21/07/2025