kawalisrif@hotmail.com

عالم ما بعد السلطة: مسؤولون إسبان سابقون يتحولون إلى “وسطاء ظل” في مسارح النفوذ الدولي

عالم ما بعد السلطة: مسؤولون إسبان سابقون يتحولون إلى “وسطاء ظل” في مسارح النفوذ الدولي

من مدريد إلى كراكاس، مرورًا بأبو ظبي وسانتو دومينغو… يشقّ عدد من كبار المسؤولين السابقين في الحكومات الاشتراكية الإسبانية طريقهم في صمت، لكن بنفوذ بالغ، وسط كواليس السياسة والاقتصاد العالميين. لا يطلّون من على منابر رسمية، ولا يخضعون لأي نوع من المحاسبة المؤسساتية، لكنهم يتحركون بحرية وسط شبكات مصالح عابرة للحدود، تُغذيها العلاقات القديمة والامتيازات التي راكموها داخل أجهزة الدولة.

من بين هؤلاء، تبرز ثلاثة أسماء تُثير الانتباه: خوسيه لويس رودريغيث ثاباتيرو، ميغيل أنخيل موراتينوس، وخوسيه بونو، وجميعهم شغلوا مناصب عليا داخل السلطة التنفيذية والدبلوماسية الإسبانية، قبل أن ينقلوا مهاراتهم إلى عالم النفوذ “الناعم” والوساطات الدولية، حيث يتقاطع السياسي بالتجاري، وتضيع الشفافية في زحمة “المصالح الخاصة”.

منذ مغادرته قصر مونكلوا، تحوّل ثاباتيرو إلى فاعل خفي في المشهد الفنزويلي، حتى إن بعض المراقبين يعتبرونه أكثر تأثيرًا من نيكولاس مادورو نفسه. لا يكتفي بدور الوسيط السياسي، بل يتدخل مباشرة في ملفات حساسة، بينها صفقات الإفراج عن معتقلين سياسيين مقابل التزامهم بـ”التعاون” مع النظام. وتؤكد مصادر متعددة أن هذا الدور يمنحه سلطة فعلية تتجاوز المهام الرمزية.

أكثر من ذلك، ارتبط اسم ثاباتيرو بعملية إنقاذ مثيرة للجدل لشركة الطيران الإسبانية “بلوس ألترا”، حيث خُصص لها 53 مليون يورو من المال العام. العملية، التي بررتها حكومة سانشيز بـ”أهميتها الاستراتيجية”، أثارت الكثير من الشبهات، خصوصًا أن الشركة لا تملك سوى ست طائرات، ما يجعل “استراتيجيتها” محل تساؤل حقيقي.

أما ميغيل أنخيل موراتينوس، وزير الخارجية الأسبق، فبات يتحرك في فضاء الجغرافيا السياسية الخليجية والأفريقية، متنقلاً بين أبو ظبي وغينيا الاستوائية، مع حضور متكرر في المغرب، حيث تربطه علاقات مؤسسية وشخصية مستمرة. في المقابل، اختار خوسيه بونو أن يجعل من جمهورية الدومينيكان قاعدته الجديدة، حيث نسج علاقات وثيقة بالرئيس لويس أبينادير، وتحوّل إلى مستشار مقرّب من دوائر المال والعقار، في بلد يستقطب الاستثمارات الإسبانية بوتيرة متصاعدة.

ومن بين الأحداث التي خلّفت علامات استفهام كثيرة، حادثة وصول دلسي رودريغيث، نائبة الرئيس الفنزويلي، إلى مطار مدريد رغم حظر دخولها إلى أراضي الاتحاد الأوروبي. جرى استقبالها في قاعة كبار الزوار، بينما أُنزِلت عشرون حقيبة من طائرتها، نُقلت بسرعة إلى وجهة مجهولة. الروايات تعددت: بين من تحدّث عن ذهب قادم من الجنوب الفنزويلي، ومن رجّح أن الأمر يتعلق بأموال نقدية في إطار عمليات مشبوهة لتبييض الأموال.

المثير أن دلسي وشقيقها خورخي رودريغيث – رئيس الجمعية الوطنية – يُعتبران أقرب إلى ثاباتيرو من مادورو نفسه، وهو ما يكرّس واقع “الدبلوماسية الموازية” التي يُديرها رئيس الحكومة الأسبق خارج أي إطار رسمي أو دبلوماسي.

في السنتين الأخيرتين، تحوّلت بوصلته نحو الصين، حيث زارها مرارًا، ممهّدًا لزيارات رئيس الحكومة الإسبانية بيدرو سانشيز. هذه التحركات توحي بأن ثاباتيرو لم يغادر السياسة فعليًا، بل أعاد تعريف دوره من لاعب رسمي إلى “منسّق مصالح استراتيجية”، خصوصًا في مجالات مثل الذكاء الاصطناعي والتكنولوجيا المتقدمة.

قد يقول قائل إن من حق أي مسؤول سابق أن يطرق أبواب المال والأعمال بعد تقاعده، ولكن حين تصبح المنافع الشخصية امتدادًا للسلطة السابقة، فإننا لا نتحدث عن “مشروع خاص”، بل عن نموذج فساد ناعم… بربطة عنق دبلوماسية.

أما في المغرب، الذي يواصل موراتينوس زياراته “الصديقة” إليه، ويحرص فيه ثاباتيرو على لقاءات “الود والتفاهم”، فإننا نتابع هذه التحركات بابتسامة مشوبة بالريبة. نعلم أن وراء كل “صديق إسباني” حكاية معقدة من المصالح والصفقات، وأن “الوسيط” الذي يبتسم لك في الرباط، قد يكون في اليوم التالي يهمس في أذن خصمك في بروكسل أو مدريد… والأدهى أن ذلك يتم غالبًا باسم “التقارب الحضاري”.

هكذا تُدار بعض الدبلوماسيات: بالمصافحة في العلن… والحقائب في السر.

قد يظن بعض الحالمين أن غياب هؤلاء المسؤولين الإسبان السابقين عن المنابر الرسمية يعني نهاية زمنهم، لكن الحقيقة أن زمنهم بدأ يوم خرجوا من السلطة. في العلن، يظهرون كـ”رسل سلام” و”مبعوثين خاصين”، وفي الكواليس، ينسجون الصفقات، ويفتحون الأبواب المغلقة، ويمارسون دبلوماسية لا تعترف بالقانون الدولي… لكنها تعرف جيدًا أرقام الحسابات البنكية وكلمات مرور النفوذ.

أما نحن في المغرب، فقد خبرنا هذا النوع من “أصدقاء ما بعد السلطة”: يزوروننا بحفاوة بروتوكولية، يلتقطون صورًا أمام صومعة حسان، يشيدون بـ”الاستثناء المغربي”، ثم لا يلبثون أن يدافعوا عن خصومنا علنًا أو سرًا. يعرفون كيف يبيعون “الوساطة” بثمن، لكنهم لا يقدّمون الحقيقة مجانًا. هؤلاء ليسوا دبلوماسيين… إنهم مقاولو سياسة خارجية، شعارهم: كلما تفاقمت الأزمات، انتعشت الصفقات.

وفي زمن “التحول الرقمي” و”الذكاء الاصطناعي”، يبدو أن بعضهم اكتشف ذكاءً من نوع آخر… ذكاء استغلال ما تبقّى من السلطة، لكن بلا أي مساءلة.

22/07/2025

Related Posts