في خطوة تعكس سعي إسبانيا إلى إعادة اكتشاف رصيدها التاريخي المرتبط بالحضارة المغربية، أعلنت شركة “رينفي” للسكك الحديدية عن إطلاق نسخة جديدة وموسعة من قطار “الأندلس السياحي الفاخر” ابتداءً من سنة 2026، وذلك احتفاءً بالذكرى الأربعين لهذا المشروع الذي يزاوج بين الترف والسياحة الثقافية. الرحلة التي ستمتد على سبعة أيام، ستنطلق من العاصمة مدريد لتعبر محطات كانت يومًا ما منارات حضارية إسلامية مغربية ، وصولًا إلى إشبيلية، عاصمة الأندلس التاريخية.
وتكتسي هذه المبادرة طابعًا رمزيًا يتجاوز البعد السياحي، فهي – من منظور مغربي – تذكير حي بما يجمع ضفتي المتوسط من إرث مشترك ضارب في عمق التاريخ، لا سيما أن المغرب كان شريكًا حضاريًا وروحيًا للأندلس عبر قرون من التبادل والعطاء، بدءًا من عهد المرابطين والموحدين، وصولًا إلى آخر الأسر الأندلسية التي وجدت في المغرب ملاذًا بعد السقوط.
المسار الجديد للقطار سيمر عبر مدن ذات حمولة ثقافية وتاريخية وازنة، من طليطلة – مدينة الثقافات الثلاث – إلى قرطبة، جوهرة الخلافة الإسلامية، ثم قصرش وميريدا ذات الإرث الروماني، وخيريث موطن الفلامنكو، وقادش التي يُقال إنها أقدم حواضر أوروبا الغربية، وكلها محطات تقاطعت ذات زمن مع الوجدان المغربي، حين كانت الرسائل تُتبادل بين سلاطين المغرب وأمراء الأندلس، وحين كانت قرطبة تفتخر بأن كثيرًا من علمائها ومفكريها من أصول مغربية.
ووفقًا لغونزالو باستور، مدير قطارات الرفاهية بـ”رينفي”، فإن الهدف من هذه النسخة الموسعة هو جذب فئات جديدة من السياح، خاصة من أوروبا الوسطى وأمريكا، مع التركيز على تقديم تجربة “مترفة ومستدامة” تواكب التحولات البيئية والمعرفية التي يعرفها القطاع السياحي في العالم. وأكد أن 70% من ركاب هذا القطار في المواسم السابقة كانوا من جنسيات غير إسبانية، ما يمنح هذا المشروع بُعدًا دوليًا يعزز من صورة إسبانيا كوجهة للثقافة الراقية، وليس فقط للترفيه السطحي.
القطار، المصمم على طراز عشرينيات القرن الماضي، لا يقدّم مجرد وسيلة تنقل، بل تجربة متكاملة تشمل الإقامة الفاخرة، والذوق الإسباني الرفيع في الطعام، والجولات المصحوبة بمرشدين متعددي اللغات، فضلًا عن الأناقة الداخلية لعرباته التي تحاكي الزمن الجميل. هو أشبه بصالون ثقافي متحرّك فوق السكك الحديدية، حيث يمتزج سحر الماضي بأناقة الحاضر.
ولعل ما يلفت الانتباه من زاوية مغربية، هو أن هذا النوع من المبادرات قد يفتح الباب أمام مشاريع سياحية مشابهة في المغرب، تستحضر البُعد الأندلسي وتستثمر في “سياحة الذاكرة” كرافد غير مستغل بما يكفي، خصوصًا في مدن مثل فاس، وتطوان، وشفشاون، والرباط، حيث يتقاطع الطابع الأندلسي مع النسيج المعماري والثقافي المغربي. فالمغرب، الذي احتضن آلاف الأندلسيين بعد نكبتهم، يملك من المقومات ما يتيح له أن يروي القصة من الضفة الجنوبية للمتوسط، وربما بشغف أكثر صدقًا.
رحلة قطار الأندلس إذن، ليست مجرد نشاط سياحي ترفيهي، بل بوابة نحو مصالحة هادئة مع التاريخ، ومناسبة لتذكير الأجيال الجديدة بما كان عليه هذا الفضاء الجغرافي والثقافي من انفتاح وحوار حضاري. إنها دعوة للمغاربة، ليس فقط لركوب القطار، بل لركوب ذاكرة كانت ذات يوم مشتركة… ذاكرة تشهد أن ما يجمع المغرب بالأندلس أكبر بكثير مما فرّقته حدود اليوم.
24/07/2025