في لحظة فارقة ضمن فعاليات مهرجان “ثويزا” بمدينة طنجة، الذي بات أحد أبرز الفضاءات الثقافية في حوض المتوسط، التأمت ثلة من الشخصيات السياسية والثقافية القادمة من قلب الهجرة المغربية، في ندوة ناقشت بعمق إحدى أكثر القضايا تعقيدًا وحساسية: الهوة السحيقة بين كفاءات المهجر والمؤسسات الوطنية، وإخفاق الدولة في استثمار هذا الرأسمال البشري الحيوي.
الندوة، التي عرفت مشاركة وازنة لفاعلين من منطقة الريف ومن مختلف جهات المغرب، لم تكن مجرد مناسبة خطابية، بل لحظة مواجهة صريحة مع واقع هشٍّ يطال علاقة الجالية المغربية بدول الاستقبال، كما بدولة الأصل، في ظل ضعف آليات التأطير وغياب رؤية استراتيجية واضحة لربط الكفاءات المهاجرة بمسارات التنمية الوطنية.
وشارك في هذا اللقاء النوعي كل من فاطمة زيبوح، الباحثة في قضايا الاندماج والهويات المركّبة، وأحمد بوطالب، عمدة روتردام الهولندية وأحد رموز الكفاءة السياسية المغربية في أوروبا، إلى جانب سامي شرشيرة، ومحمد أمزيان الإعلامي المعروف، والصابي المساوي، الناشط في قضايا الذاكرة والهوية.
وما ميّز الندوة هو العودة القوية للأمازيغية الريفية كلغة مهيمنة في النقاش، ليس فقط بوصفها أداة تواصل، بل كحامل للهويات المتعددة والانتماء الرمزي للجذور، في مشهد عبّر عن التشبث العميق بالثقافة الأصلية رغم امتداد سنوات الهجرة وتراكم المسافات.
المداخلات، التي غلب عليها النفس النقدي، تطرقت إلى التحديات الوجودية التي تواجه الأجيال المغربية في المهجر، خاصة ما يتعلق بهشاشة السياسات العمومية الموجهة للجالية، واستمرار القطيعة المعنوية والتنظيمية بين الدولة والكفاءات المغربية بالخارج، رغم خطابات “الرعاية” و”الوطنية”.
ووجّه المشاركون رسائل قوية إلى الحكومة المغربية، منتقدين ما وصفوه بـ”الجمود المؤسساتي” في ملف الهجرة، و”الانفصام بين الخطاب الرسمي والممارسة الواقعية”، مشيرين إلى أن الطاقات المغربية في الخارج لا تزال خارج معادلة التنمية الوطنية، إما بسبب التهميش أو بسبب غياب قنوات مؤسساتية فعالة للربط والتثمين.
بعض المداخلات ذهبت أبعد من ذلك، معتبرة أن ما يحصل هو تبديد متواصل لرأسمال بشري وذهني هائل، في وقت تخوض فيه الدولة معارك التنمية، وتواجه تحديات دولية تفرض تعبئة جميع الطاقات، داخل الوطن وخارجه.
الندوة لم تغفل أيضًا البعد الهوياتي والثقافي، حيث أثيرت قضايا مثل أزمة الانتماء لدى أبناء الجيلين الثاني والثالث من المهاجرين، وتنامي مظاهر الاغتراب الرمزي في ظل غياب سياسات ثقافية حقيقية تحافظ على صلة الأجيال بالوطن الأم.
وقد خلصت الندوة إلى ضرورة بلورة رؤية وطنية جديدة في التعاطي مع قضايا الهجرة، رؤية تتجاوز الطابع المناسباتي والاحتفالي، وتنتقل إلى فعل مؤسسي شجاع يجعل من كفاءات المهجر شريكًا حقيقيًا في التنمية، لا مجرد “صوت انتخابي” أو “رمز احتفالي” يُستدعى عند الحاجة.
26/07/2025











