في مشهد يُثير السخرية أكثر مما يُثير الدهشة، كشف إعلان رسمي صادر عن المركز الاستشفائي الإقليمي بتاونات (طلب عروض سندات طلب رقم 10/2025) عن صفقة غريبة ومهينة تقتصر على اقتناء 370 خيطًا جراحيًا فقط بمختلف أنواعه، لفائدة ساكنة يتجاوز عددها 600 ألف نسمة. الأرقام وحدها كافية لفضح العبث: غرزة واحدة لكل عشرة آلاف مواطن، بمعنى أن مواطنًا واحدًا فقط قد يُخاط جرحه، بينما يُترك آلاف الجرحى الآخرين تحت رحمة الأقدار، أو يُجبرون على شد الرحال نحو فاس.
هذا الواقع الكارثي يعكس وضعًا يعرفه الجميع: المستشفى الإقليمي بتاونات لم يعد يقوم بدوره كإقليمي، بل تحوّل إلى ما يشبه وكالة سفر إجبارية إلى مستشفيات فاس. حتى أصبح السكان يطلقون عليه، وبسخرية لاذعة، اسم “مستشفى سير لفاس”. في المقابل، تظل التساؤلات محرجة وصادمة: كيف يُعقل أن يكتفي مستشفى يخدم مئات الآلاف من المواطنين بهذه الكمية الهزيلة من الخيوط الجراحية؟ هل نحن أمام سوء تقدير فاضح للاحتياجات الفعلية، أم أن الأمر أعمق من ذلك ويدخل في إطار سياسة تقشف صحي تُمارس على حساب المواطن البسيط؟
ورغم الخطب الرسمية والشعارات البراقة حول “تأهيل القطاع الصحي” و”تقريب الخدمات من المواطن”، فإن ساكنة تاونات تواجه يوميًا واقعًا مأساويًا قوامه بنية تحتية متآكلة، خصاص مهول في الأطر الطبية، وتجهيزات شبه منعدمة. وبينما تتكاثر الحوادث وحالات الولادة والتدخلات الجراحية المستعجلة، يبقى المستشفى المحلي عاجزًا حتى عن تلبية أبسط الحاجيات الطبية.
أمام هذا الوضع، لا يجد المرضى سوى خيار واحد: رحلة العذاب القسرية نحو فاس. رحلة تتكرر يوميًا وتحمل معها معاناة نفسية كبيرة وتكاليف مادية ترهق كاهل الأسر محدودة الدخل. وكأن المرضى لم يعد يكفيهم ألم الجسد، بل صار عليهم أن يتحملوا ألم الطريق وذل البحث عن العلاج.
ويبقى السؤال مطروحًا بإلحاح : هل تاونات فعلًا تتوفر على مستشفى إقليمي، أم مجرد محطة عبور نحو فاس؟ وإذا كان نصيب إقليم بأكمله من الخيوط الجراحية لا يتجاوز بضع مئات، فربما على وزارة الصحة أن تفكر بجدية في تغيير لافتة المستشفى وتعويضها بلافتة أوضح: “مرحبا بكم في وكالة الأسفار الطبية… الوجهة: فاس، بلا رجعة !”