في كل ملف لجوء إحصائي تكمن قصة، وفي كل رقم إحصائي صفحة من واقع الشباب المغربي المعاصر. الأرقام الإسبانية لعام 2025 تكشف ظاهرة تبدو محدودة في حجمها، لكنها عميقة في دلالتها: 2.020 مغربياً تقدّموا بطلبات لجوء، بزيادة 6٪ عن السنة الماضية، في وقت يظل فيه أكثر من 300 ألف ملف عالق في الإدارة الإسبانية. هذا التكدس الرقمي ليس مجرد إحصاء، بل انعكاس لضغط اجتماعي وسياسي، وحالة من التوتر النفسي والمجتمعي لدى شباب يجد نفسه محاصراً بين وطن محدود الفرص وأرض أوروبية تضع شروطاً صارمة للبقاء.
نسبة القبول شبه معدومة: 5٪ فقط من الطلبات حظيت بالموافقة، أي 101 ملف، مقابل رفض ساحق بلغ 95٪. هذا الواقع يكشف ازدواجية مؤلمة: صرامة إسبانيا في تطبيق معايير اتفاقية جنيف التي تحصر اللجوء في حالات الاضطهاد السياسي أو الديني أو العرقي، وحقيقة أن غالبية المغاربة لا ينطبق عليهم تعريف “المضطهدين”، بل يبحثون عن متنفس قانوني للإبقاء على تواجدهم في أوروبا. اللجوء بالنسبة لهم ليس هروباً من حروب أو قمع، بقدر ما هو محاولة للبقاء في فضاء أوروبي ضيق ومزدحم.
ورغم أن المغرب ليس بلداً يعيش نزاعات مسلحة، إلا أنه يحتل المرتبة الثالثة إفريقياً في مصدر طلبات اللجوء نحو إسبانيا بعد مالي والسنغال. المفارقة أن المغاربة الذين تراجعوا عن ركوب “قوارب الموت”، لجأوا إلى قنوات قانونية، في مؤشر على تحول تكتيكي أكثر منه اعتقاداً بجدوى الحماية الدولية.
التوزيع الجغرافي يسلط الضوء على أبعاد إضافية: مدريد وحدها استقبلت ما يقارب ثلث الطلبات (29٪)، تليها برشلونة بنسبة 9٪. هذا التمركز يضاعف الضغط على البنية التحتية والخدمات الاجتماعية، ويفتح الباب أمام التيارات اليمينية المتطرفة لتوظيف الملف الانتخابي، مستثمرة صورة “المهاجر-اللاجئ” كتهديد دائم للنسيج الاجتماعي.
الأرقام تكشف أيضاً عن تكتيك محسوب: 95٪ من الطلبات قُدمت من داخل التراب الإسباني، مقابل 4٪ فقط عبر المعابر الحدودية المحتلة. ما يعني أن العديد من المغاربة يدخلون بداية عبر تأشيرات قصيرة الأمد، ثم يتحولون إلى طالبي لجوء. استراتيجية تعكس وعياً بالثغرات القانونية، لكنها تضع أصحابها في دوامة انتظار طويلة بلا ضمان للقبول.
على الصعيد الأوروبي، تزامن هذا الواقع مع مصادقة الاتحاد الأوروبي في ماي 2024 على أكبر إصلاح لقوانين الهجرة واللجوء منذ عقد، سيبدأ تطبيقه في 2026، ويشمل تسريع الترحيل، تشديد المراقبة الحدودية، وتوزيعاً إلزامياً لطالبي اللجوء بين الدول الأعضاء. وهو ما يعني أن هامش المناورة القانوني الذي يستغله البعض لن يدوم طويلاً.
إسبانيا تواجه اليوم معادلة شائكة: بين التزاماتها الدولية من جهة، واحتقان داخلي متزايد مع تضخم الملفات من جهة أخرى. أما المغرب، فإن هذه الأرقام تعكس عمق الأزمة الاقتصادية والاجتماعية التي تدفع بشبابه للبحث عن بدائل ولو عبر مسالك غير مضمونة، كمرآة للوضع الداخلي: بلد مستقر نسبياً، لكنه يعاني من بطالة مرتفعة وتفاوتات بنيوية تغذي نزيف الهجرة.
الخلاصة أن ملف اللجوء المغربي في إسبانيا يتجاوز مجرد أرقام عابرة في تقارير رسمية، ليكشف عن تداخل أزمات الداخل مع انسداد الخارج. إنها أرقام صغيرة، لكنها محمّلة برمزية ثقيلة: شباب محاصر بين وطن يضيّق عليه الأفق، وفضاء أوروبي يرفع في وجهه جدار الرفض.
وفي ظل هذه المعطيات، يبرز بعد آخر أخطر: عدد من المغرر بهم استغلوا موجة اللجوء للعمل لأجندات خارجية باسم “الريف المغربي” أو شعارات سياسية مشبوهة، مستغلين حالة اليأس والاغتراب لترويج أفكار مضللة وتشويه صورة المغرب داخلياً وخارجياً، ما يزيد من تعقيد المشهد الأمني والسياسي ويطرح تحديات إضافية أمام الدولة والمجتمع على حد سواء. هذه الظاهرة تمثل تحذيراً مزدوجاً: على المستوى الاجتماعي والاقتصادي، وعلى المستوى الأمني والسياسي، إذ تتحوّل قضية اللجوء من مجرد حق إنساني إلى ملف حساس يتداخل فيه الداخل والخارج، الطموح الفردي والأجندات الخارجية.
24/08/2025