kawalisrif@hotmail.com

فنلندا تطوي صفحة “الصليب المعقوف”… ذاكرة مثقلة بين إرث الحرب وضغط الحاضر

فنلندا تطوي صفحة “الصليب المعقوف”… ذاكرة مثقلة بين إرث الحرب وضغط الحاضر

في قرار وصفه كثيرون بـ”المتأخر تاريخيًا”، أعلنت القوات الجوية الفنلندية عن إزالة “الصليب المعقوف” من أعلامها العسكرية، في خطوة تتزامن مع التحولات الكبرى التي تعيشها هلسنكي بعد انضمامها إلى حلف شمال الأطلسي.

ورغم تأكيد المسؤولين الفنلنديين أن هذا الرمز لا صلة له بألمانيا النازية، فإن بقاؤه لأكثر من قرن ظل يثير الريبة والجدل، سواء لدى حلفاء الناتو أو بين زوار البلاد. وقد اعترف القائد الجديد للسرب الجوي، تومي بوم، قائلاً بواقعية: “كان بإمكاننا الاستمرار في استخدامه، لكن الحكمة تقتضي مسايرة الزمن وتفادي أي التباس قد يضع فنلندا في مواقف محرجة.”

يعود اعتماد هذا الشعار إلى سنة 1918، أي قبل سنوات طويلة من صعود النازية. آنذاك، كانت فنلندا قد خرجت لتوها من حرب أهلية دامية بين المعسكر الاشتراكي والمحافظين، بعيد استقلالها عن روسيا القيصرية. وفي خضم الصراع، قدّم الكونت السويدي “إريك فون روزن” أول طائرة للمعسكر المحافظ، وكانت تحمل صليبًا معقوفًا أزرق على خلفية بيضاء، اعتُبر حينها رمزًا للحظ والحماية. لكن عجلة التاريخ قلبت المعنى، فارتبط الشعار لاحقًا بالفظائع التي ارتكبها النظام النازي، ليتحوّل من رمز للحماية إلى أيقونة للكراهية والتطرف.

وعلى مدى عقود، ظل “الصليب المعقوف” جزءًا من هوية القوات الجوية الفنلندية، يزين طائراتها وأعلامها حتى بعد نهاية الحرب العالمية الثانية. غير أن انضمام فنلندا إلى الناتو جعل من هذا الرمز عبئًا سياسيًا ودبلوماسيًا. فكيف لدولة حديثة العهد بالحلف أن تواصل رفع راية تثير جراحًا لم تندمل بعد في الذاكرة الأوروبية والعالمية؟

من هنا جاء القرار كرسالة واضحة: طي صفحة الماضي الملتبس وتأكيد اصطفاف فنلندا داخل المنظومة الغربية، حيث لا مكان لأي إشارة – ولو رمزية – إلى النازية، حتى لو كان الأصل التاريخي مختلفًا.

ويقدّم الحدث مثالًا دقيقًا عن كيفية إدارة الدول لذاكرتها الرمزية. فالمغرب، الذي يسعى دائمًا إلى التوازن بين ماضيه العريق وتطلعاته المستقبلية، يدرك أن الرموز ليست مجرد زخارف بصرية، بل محركات للذاكرة الجماعية وصورة للأمة أمام العالم. وفنلندا، بهذا القرار، اختارت البراغماتية بدل العناد التاريخي، لتبرهن أن مستقبل الشعوب لا يُبنى على رموز ملتبسة، بل على وضوح في الاختيارات.

وبينما كان “الصليب المعقوف” رمزًا للحظ في بدايات القرن العشرين، تحوّل في أربعينياته إلى رمز للعار والدمار. واليوم، وبعد أكثر من مئة عام، تطوي فنلندا هذه الصفحة الرمزية المثقلة، لتفتح راياتها على أفق جديد، منسجم مع تحالفاتها وقيمها الديمقراطية.

31/08/2025

Related Posts