في زمن تُحاصر فيه وزارة الصحة بانتقادات لاذعة بسبب هفوات التدبير وتنامي الأعطاب في تنزيل ورش التغطية الصحية الشاملة، يعود إلى الواجهة اسم استثنائي ظل حاضرًا في ذاكرة المغاربة: الدكتور الحسين الوردي، ابن الناظور ووزير الصحة الأسبق عن حزب التقدم والاشتراكية.
لم يكن الوردي مجرد وزير عادي يردد الشعارات أو يبرر الفشل، بل جسّد نموذج المسؤول التقدمي الذي يملك الشجاعة لمواجهة شبكات المصالح الراسخة في وزارة الصحة. لوبيات الأدوية والمختبرات، التي طالما تحكمت في السوق المغربية، وجدت نفسها لأول مرة أمام وزير قلب الطاولة على قواعد اللعبة.
معركة الوردي لم تكن نزهة؛ فقد دفع ثمن جرأته غاليًا. تلقى تهديدات ومحاولات تصفية جسدية بعدما ضرب مصالح متجذرة راكمت الثروات على حساب صحة الفقراء. تدخل الملك محمد السادس بتخصيص حراس شخصيين له لم يكن مجرد حماية فردية، بل كان اعترافًا بأن الرجل يقود معركة وطنية، دفاعًا عن صورة الدولة وهيبتها أمام جبروت الفساد.
من المحطات التي صنعت أسطورة الوردي، معركته ضد احتكار دواء التهاب الكبد الفيروسي (سوفالدي). حاولت شركات عملاقة فرض أسعار فلكية تجعل الدواء بعيدًا عن متناول آلاف المرضى. لكن الوزير لم يرضخ، بل أدار مفاوضات مراطونية انتهت بتحقيق اختراق تاريخي: كسر الاحتكار وفتح الباب أمام إنتاج محلي للدواء بأثمان منخفضة.
ذلك القرار لم يكن تقنيًا فقط، بل كان زلزالًا سياسيًا في وجه لوبيات الأدوية، ورسالة صريحة أن صحة المغاربة فوق أرباح الشركات. بذكاء استثنائي ورؤية بعيدة، مهد الوردي الطريق نحو صناعة دوائية وطنية، واضعًا حجر الأساس لما يمكن تسميته سيادة دوائية، وهي فكرة جريئة في بلد ظل مرتهنًا لعقود لاستبداد المختبرات العالمية.
خارج المكاتب الوثيرة، كان الوردي يمارس دور “الوزير المواطن”. يتنقل بين المستشفيات متخفيًا، بعيدًا عن الكاميرات، ليرى الحقيقة كما هي: مريض ينتظر في طابور طويل، طبيب يفضل العيادة الخاصة، جهاز معطل منذ شهور. هذه الزيارات لم تكن استعراضًا، بل كانت أسلوبًا صادقًا في الحكم، وقطيعة مع ثقافة البروتوكولات التي تزيّن الخراب وتخفي العيوب.
رغم ضيق الإمكانيات وسطوة البيروقراطية، تمكن الوردي من ترك بصمات لا تُمحى. كان رجلًا يجرؤ على المواجهة، يملك نزاهة فكرية وأخلاقية، ويبرهن أن الإصلاح ليس مستحيلاً متى توفرت الإرادة والجرأة. بالنسبة لكثير من المتابعين، كان الوردي الوزير الذي جسّد فكرة أن “السياسة تكليف لخدمة المواطن”، لا امتيازًا أو مطية للربح.
اليوم، ومع تراكم خيبات الأمل من التدبير الحالي للقطاع، ترتفع أصوات صريحة: نريد الحسين الوردي من جديد. ليس حنينًا إلى الماضي بقدر ما هو توق إلى استعادة نموذج رجل دولة حقيقي، يجمع بين النزاهة والجرأة، في زمن تُختطف فيه المصلحة العامة لصالح مصالح خاصة.
الحسين الوردي لم يكن وزيرًا عابرًا، بل رمزًا لذاكرة سياسية نظيفة، ورجلًا جسّد في أصعب قطاع معنى المسؤولية الوطنية. عودته ليست ترفًا سياسيًا، بل مطلبًا شعبيًا ورسالة واضحة: المغرب يحتاج وزراء بوزن رجال دولة، لا موظفين كبار يختبئون خلف المكاتب.
16/09/2025