في لحظة تبدو تقنية في ظاهرها، لكنها عميقة الدلالة في جوهرها، أعلنت الحكومة عن قرار استراتيجي جديد يتعلق بميناء الناظور غرب المتوسط. فبمجرد نشر قرار وزير التجهيز والماء رقم 1925.25 في الجريدة الرسمية (عدد 7440 بتاريخ 28 يوليوز 2025)، والقاضي بتحديد الحدود الرسمية لعرض البحر ومدخل الميناء، يكون المغرب قد خطا خطوة إضافية نحو تثبيت حضوره البحري وتوسيع دائرة سيادته الاقتصادية في واحد من أهم المشاريع المهيكلة بالمتوسط.
ميناء الناظور غرب المتوسط، الذي يقترب من انتهاء أشغاله ليبدأ نشاطه مع مطلع 2026، لم يعد مجرد مشروع هندسي ضخم يطل على خليج بطويا، بل بات رمزاً لتحول استراتيجي شامل: صناعة لوجستية وصناعية متكاملة، منطقة حرة منافسة، وأرصفة عميقة تضع الجهة الشرقية على خط تماس مباشر مع ديناميات الاقتصاد البحري العالمي. إنه نسخة شرقية من تجربة “طنجة المتوسط”، تعزز حضور المغرب في البحر وتمنحه قدرة مضاعفة على التحكم في شرايين التجارة الدولية.
غير أن ما تنتظره الساكنة المحلية من الناظور والدريوش وبركان، وعموم المغرب الشرقي، يتجاوز الرمزية إلى الواقع الملموس: فرص شغل مباشرة وغير مباشرة للشباب، تحريك الدورة الاقتصادية، استقطاب الاستثمارات، وفك عزلة تاريخية عن المنطقة التي طالما ظلت على هامش المشاريع الكبرى. كما تترقب جهة فاس – مكناس بدورها أن تستفيد من هذه الدينامية، باعتبارها أقرب جهة داخلية إلى هذا الميناء الدولي، وبحكم موقعها كعمق استراتيجي للمشروع وبوابة طبيعية للشرق والجنوب الشرقي.
إن تحديد عرض البحر ليس مجرد خطوط مرسومة على خرائط الملاحة، بل هو إعلان سيادي يرسم حدود المغرب البحرية، ويجعل البحر مجالاً للتنمية بقدر ما هو مجال للسيادة. فالمملكة اليوم تعيد هندسة علاقتها بفضائها البحري باعتباره ثروة استراتيجية، لا تقل قيمة عن ترابها وحدودها البرية.
ولذلك، فإن نشر القرار بالجريدة الرسمية لا ينبغي قراءته كإجراء إداري محض، بل كرسالة سياسية وتنموية في الآن ذاته: المغرب يدخل مرحلة جديدة من مشروعه البحري، ويمنح لجهاته الشرقية، من بوابة أوروبا الناظور إلى بركان والدريوش، مروراً بجهة فاس – مكناس وصولاً إلى الحسيمة والجنوب الشرقي، فرصة تاريخية للتحول إلى محاور تنموية كبرى. إنها بداية إقلاع منتظر، سيعيد رسم خريطة التوازنات الاقتصادية للمملكة ويثبت حضورها كقوة متوسطية صاعدة.















