في سابقة تعكس تعقّد العلاقات الحدودية بين ضفتي المتوسط، لم يعد المغرب ذلك البلد الذي يشتكي من تدفق النفايات الأوروبية نحو أراضيه، بل صار في قفص الاتهام وفق الإعلام الإسباني، بعدما أعلنت مصالح الحرس المدني الإسباني، عبر وحدتها البيئية “سيبرونا”، عن اكتشاف مكبّ سري جديد بمدينة “لا لينيا دي لا كونسيبسيون” بمقاطعة قادش، مكدّس بآلاف الأطنان من بقايا النسيج والتنجيد والإسفنج القادمة من المغرب، متناسية بلدان المنشأ والوحدات الأوروبية والأمريكية التي تسوق عبر إسبانيا في اتجاه المغرب أو تونس.
هذا الاكتشاف، الثالث من نوعه في ظرف عامين فقط، يعيد طرح أسئلة محرجة حول طبيعة الرقابة على الصادرات الصناعية المغربية، ومدى التواطؤ أو التساهل مع شبكات الوساطة التي وجدت في النفايات مورداً ربحياً سريعاً. التحقيقات الإسبانية بيّنت أن وسطاء استغلوا ثغرات قانونية لتسهيل إدخال هذه المخلفات عبر ميناء الجزيرة الخضراء، دون تراخيص عبور أو تصاريح لمعالجة النفايات، ما يحوّل الضفة الشمالية للمتوسط إلى حاوية مفتوحة.
الواقع القانوني في المغرب مختلف قليلاً: شركات تدوير الملابس المستعملة مُلزَمة بالاستيراد وفق كوطة ورخصة رسمية، على أساس إعادة التدوير قبل تسويقها إلى الخارج. وفق مصادر مغربية، تجبر الجمارك ووزارة التجارة الخارجية الوحدات على الالتزام بدفتر التحملات، بما يشمل نسباً محددة للتسويق الداخلي. أما بقايا الملابس، فهي غالباً تُحوّل إلى مواد أولية للأغطية أو الجفاف أو مناديل قطنية في مختلف المصانع العالمية.
مع ذلك، يبدو أن بعض الوساطات غير القانونية أو الانتهاكات لشروط التراخيص تتسبب في وصول كميات كبيرة إلى المكبات غير المرخصة في إسبانيا، كما هو الحال في “لا لينيا”. المنظمات البيئية الإسبانية، وعلى رأسها “فرديمار – بيئيون في حركة”، كانت وراء كشف المستودع بعدما وثّقت شاحنات ترمي يومياً قصاصات القماش والإسفنج في العراء، ما يثير المخاطر البيئية المباشرة على التربة والمياه وصحة السكان.
الأمر ليس جديداً. ففي السنوات الأخيرة، تكررت عمليات مماثلة: يوليوز 2023 شهد ضبط 1.700 طن من النفايات النسيجية بالجزيرة الخضراء، تبعتها غشت 2024 بفضيحة 1.800 طن إضافية في بلدة سان روكي، كلها عبر شحنات بحرية من المغرب، بلا تراخيص في بعض الحالات.
التحقيق الجاري في “لا لينيا” لا يقتصر على البعد الاقتصادي المتمثل في التهرب من كلفة المعالجة القانونية، بل يطرح أيضاً فرضية استعمال هذه الشحنات كغطاء لتمرير مواد محظورة أخرى، بما فيها المخدرات، وإن لم يتم تأكيد ذلك رسمياً بعد. والتراكم المستمر لهذه المخلفات، سواء الطبيعية كالقطن والصوف أو الصناعية كالأقمشة الاصطناعية، يشكل تهديداً بيئياً كبيراً، إذ قد يستغرق تحللها عقوداً أو قروناً، مخلّفة غازات دفيئة وميكروبلاستيكات تلوّث التربة والأنهار والبحر.
اليوم، بينما تواصل النيابة العامة الإسبانية فتح ملفات مع عدة متورطين في جريمة نقل غير قانوني للنفايات إلى المنطقة الصناعية “زابال”، تظل المنطقة في قلب فضيحة عابرة للحدود، تضع المغرب أمام امتحان الرقابة على ما يغادر موانئه من بقايا صناعية، وتضع إسبانيا أمام تحدّي حماية البيئة ومكافحة شبكات التهريب. والسؤال يبقى: هل نحن أمام تجارة نفايات قانونية تُخالفها وساطات مظللة، أم أمام غطاء لشبكات إجرامية أكبر تستبيح مضيق جبل طارق؟












