انطلقت صباح الاثنين، أمام الغرفة الأولى بمحكمة الجنايات التابعة للمحكمة الوطنية الإسبانية، أولى جلسات محاكمة المغربي ياسين كانجا، المتهم بقتل القس الإسباني دييغو ڤالنسيا پيريث داخل كنيسة “لا پالما” بمدينة الجزيرة الخضراء (Algeciras) جنوب إسبانيا، في حادث هزّ الضمير الإسباني والأوساط الدينية عبر أوروبا.
وتتهم النيابة العامة الإسبانية كانجا بارتكاب جريمة قتل ذات طابع إرهابي، إلى جانب محاولة قتل الكاهن أنطونيو رودريغيث لوسينا والتسبب في إصابة المواطن أحمد ل.، مطالبةً بإدانته بـ 50 سنة سجناً نافذاً وتعويضات مالية تناهز 270 ألف يورو لفائدة أسر الضحايا.
استمعت المحكمة في أولى الجلسات إلى شهادات مباشرة من داخل كنيستَي “سان إيسيدرو” و“لا پالما”، حيث بدأت سلسلة الهجمات. وأكد أحد الشهود أن المتهم دخل المكان “مضطرباً، يهمهم بكلمات غير مفهومة”، قبل أن يهاجم الكاهن بشكل مباغت حاملاً سيفاً طويلاً.
وقال شاهد آخر: “تحرّك بسرعة جنونية وصعد إلى المذبح كأنه في حالة غياب تام عن الواقع، يضرب دون وعي حتى سقط الكاهن أرضاً.” وفي كنيسة “لا پالما”، روى القس روبين ڤارغاس كاندون اللحظات الأخيرة قائلاً: “كان كأنه شبح يندفع وسط الظلام… رأيت أول ضربة على ظهر دييغو ڤالنسيا، كانت قاسية، صرخة واحدة تبعتها فوضى ورعب بين المصلين.”
يتكوّن قضاة المحكمة من ألفونسو غيڤارا ماركوس (رئيس الجلسة)، وماريا رييرا أوكاريز، وخوسيه ريكاردو دي برادا سولايزا، المكلّفين بالحسم فيما إذا كان الفعل إرهاباً منظّماً أم جريمة ناتجة عن اضطراب نفسي خطير.
ويشير التقرير الطبي الصادر عن المستشفى النفسي للسجون في إشبيلية إلى أن المتهم يعاني من “اضطراب ذهاني حاد من النوع الفُصامي”، وهو ما قد يخفّف من مسؤوليته القانونية دون أن يُسقط عنه صفة الفعل الإرهابي، وفقاً لتقديرات الادعاء العام.
هزّت الجريمة المجتمع الإسباني في يناير 2023، وأعادت إلى الواجهة النقاش حول الهجرة غير النظامية والتطرّف الديني، خاصة بعدما كشفت التحقيقات أن المتهم كان يعيش في وضع غير قانوني، وقد صدر بحقه قرار بالطرد من التراب الإسباني قبل ستة أشهر من الهجوم، لكنه لم يُنفّذ لأسباب إدارية.
وفي المغرب، أثارت القضية تفاعلاً واسعاً داخل الأوساط الحقوقية والمدنية، حيث دعت جمعيات مغربية في إسبانيا إلى عدم الزجّ باسم الجالية المغربية في قضايا معزولة، مؤكدة أن “الهوية المغربية لا يمكن أن تُختزل في تصرف فرد مضطرب”.
كما شدّد فاعلون مغاربة على ضرورة تعزيز التعاون الأمني والديني بين الرباط ومدريد لتفادي تكرار مثل هذه الأحداث، التي تُغذي خطاب الكراهية وتضرّ بصورة التعايش التي بناها المغاربة في إسبانيا على مدى عقود.
خلال الجلسات القادمة، يُتوقّع أن تستمع المحكمة لشهادات عناصر الشرطة المحلية الذين أوقفوا المتهم دقائق بعد الحادث، بينما كان راكعاً في ساحة “ڤيرخن دي لاس لاجرماس”، متأملاً السماء في مشهد غامض، وقد ترك سيفه الملطخ بالدماء على الأرض.
المحاكمة، التي تجري وسط إجراءات أمنية مشددة وتغطية إعلامية مكثفة، تحولت إلى أحد أكثر الملفات القضائية حساسية في إسبانيا خلال السنوات الأخيرة، لما تمثّله من تقاطع بين الإرهاب والدين والهجرة والسياسة.
في قاعة المحكمة، جلس ياسين كانجا صامتاً، ملامحه شاحبة، وعيناه غارقتان في الفراغ، وكأن الزمن توقّف عند تلك الليلة المشؤومة من يناير. على المقاعد الخلفية، جلست عائلة الضحية تحتضن صور دييغو ڤالنسيا، فيما كان جرس الكنيسة في الخارج يرنّ كما لو أنه يعيد طرق سؤال العدالة في ضمير أمة بأكملها.
وبين أسوار المحكمة الوطنية في مدريد، لم يعد الصراع فقط بين الجاني والمجني عليه، بل بين الإنسان وظله المظلم، بين الرحمة والعقاب، بين الإيمان والخوف من عودة التطرف إلى قلب أوروبا.
العدالة الإسبانية ستقول كلمتها قريباً، لكنّ الجرح ما زال مفتوحاً في الجزيرة الخضراء… وفي ذاكرة الإسبان والمغاربة على حدّ سواء.












