استفاقت الحسيمة، صباح الثلاثاء، على مشهدٍ لا يُشبه سوى كوابيس المدن التي فقدت إنسانيتها. أمام المارة بشارع الزلاقة، تحوّل الفنان الملتزم المعروف باسم “سوليت” — أحد أبناء المدينة ومن ذوي الاحتياجات الخاصة — إلى شعلةٍ بشرية، بعدما أقدم شخص على سكب مادة قابلة للاشتعال على جسده، ثم أشعل فيه النار بدمٍ بارد.
مشهد الجريمة لم يكن في زاويةٍ معتمة أو مكانٍ مهجور، بل في قلب المدينة، تحت شمسٍ شاهدة وكاميراتٍ لا تعرف الرحمة. استدرجه الجاني من مقهى قريب، في لحظةٍ خادعة من الثقة، قبل أن يحوله إلى جسدٍ يشتعل وسط ذهول الحاضرين. بعض المارة فرّوا خوفاً، آخرون وقفوا مذهولين، فيما قلةٌ فقط حاولت إنقاذ ما تبقّى من إنسانٍ احترق ظلماً.
نُقل “سوليت” على وجه السرعة إلى المستشفى الإقليمي محمد السادس، ثم إلى المستشفى الجامعي بطنجة، حيث يخوض صراعه الأخير مع الحياة داخل أروقة العناية المركزة. الحروق لم تطل جسده فقط، بل طالت وجدان مدينةٍ بأكملها، لطالما تباهت بتاريخها الفني والإنساني.
تحركت السلطات الأمنية بسرعة، وتمكنت من توقيف المشتبه فيه ووضعه رهن الحراسة النظرية، بتعليمات من النيابة العامة، فيما لا تزال التحقيقات جارية لكشف تفاصيل الجريمة ودوافعها. لكن السؤال الذي يعصف بالعقول في الحسيمة ليس فقط “من فعلها؟”، بل “كيف وصلنا إلى أن تُحرق الروح وسط الشارع، دون أن تهتز الضمائر؟”
على مواقع التواصل، تفجّرت موجة من الغضب والذهول. فـ“سوليت” لم يكن مجرّد فنان بسيط يعزف على قيثار الحياة من هامش المدينة، بل كان ذاكرةً صغيرة للحسيمة، رمزاً للتحدي رغم الإعاقة، وصوتاً حقيقياً لمن آمن بأن الفن لا يحتاج إلا قلباً صادقاً.
اليوم، بين ألسنة النار التي التهمت جسده وبين صمت المؤسسات، تطرح الحسيمة سؤالها العاري:
هل باتت المدن التي أنجبت الحلم عاجزة عن حماية مبدعيها؟
ربما رحل “سوليت” جسداً، لكن صرخته ستظل تحوم فوق الأزقة، تذكّر الجميع بأن الإعاقة ليست في الجسد، بل في العيون التي اعتادت مشهد الألم دون أن ترفّ.
في زاويةٍ من ذاكرة الحسيمة، سيبقى “سوليت” واقفاً، بعكازه الصغير وابتسامته التي قاومت القسوة. كان يغني للحياة، فغنّت النار عليه. ترك خلفه مقعداً فارغاً في المقهى، وهارمونيكا صامتة لا تجد من ينفخ فيها، ومدينةً تحاول عبثاً أن تبرّر صمتها.