في خضم التحولات الاجتماعية والسياسية التي يعيشها المغرب، برز جيل جديد من الشباب، يُعرف في الأدبيات المعاصرة بـ«جيل زد»، يحمل وعياً رقمياً وسياسياً غير مسبوق، ويخوض مواجهة مفتوحة ضد الفساد والتهميش وفقدان الثقة في المؤسسات.
إنها دينامية احتجاجية مختلفة في شكلها ومضمونها، تقودها فئة تربّت في فضاء العولمة الرقمية ووسائط التواصل الاجتماعي، وبدأت اليوم تُرغم السلطة على مراجعة أنماط إدارتها للشأن العام.
يستند هذا التحليل إلى مقاربة «الفاعلين» في العلوم السياسية، التي تفترض أن أي ظاهرة سياسية هي نتاج تفاعل بين أطراف متعددة. وفي الحالة المغربية، يمكن رصد أربعة فاعلين رئيسيين في علاقة السلطة بحراك جيل زد:
1- الفاعل الدولي
تمثله القوى والهيئات العابرة للحدود التي أبدت اهتماماً واضحاً بالحراك الشبابي المغربي، من منظمات الأمم المتحدة إلى الجمعيات الحقوقية الدولية، مروراً بالإعلام العالمي الذي سلط الضوء على هذه الموجة الاحتجاجية الجديدة، ما منحها بعداً أممياً وأحرج بعض السياسات الحكومية المتعثرة.
2- الفاعل التكنولوجي
هو الوجه الآخر للعولمة الرقمية، التي منحت الشباب نوعاً جديداً من «المواطنة الكونية الافتراضية».
من خلال فضاءات مثل يوتيوب، تيك توك، ديسكورد ومنصات الألعاب والنقاش، استطاع هؤلاء الشباب تحويل الإنترنت إلى ساحة نضال رمزي، يناقشون فيها قضايا البطالة، ضعف التعليم والصحة، وتفشي الفساد.
ولعل شعارات مثل «ما بغيناش كأس العالم، بغينا مدارس» تختزل هذا الوعي الجديد الذي يربط الكرامة بالحقوق الاجتماعية لا بالاستعراضات السياسية.
3- الفاعل الشبابي – جيل زد
هو محور هذه الدينامية. جيل يعيش في زمن السرعة والتواصل والشفافية، في حين يتعامل معه النظام السياسي بـ«برامج قديمة».
ففي الوقت الذي يشتغل فيه الشباب بعقلية محدثة ومتصلة بالعالم (نسخة 2025 من الديمقراطية الرقمية)، ما زالت بعض المؤسسات السياسية تعمل وفق برمجيات حكامة متقادمة (نسخة 2011).
هذا التفاوت في الإيقاع بين الجيل والسلطة أنتج فجوة سياسية وثقافية عميقة تحتاج إلى تجسير عاجل.
4- الفاعل الدولاتي أو المؤسساتي
ويقصد به «السلطة الحاكمة» بمفهومها الواسع، أي المؤسسة الملكية والأجهزة المركزية للدولة، التي تبقى الضامن الأخير للتوازنات الكبرى ولتطبيق الدستور.
اليوم، تجد هذه المؤسسة نفسها أمام تحدٍّ مزدوج: الحفاظ على الاستقرار من جهة، والاستجابة لمطالب جيل جديد من المواطنين الذين يطالبون بمغرب أكثر عدلاً وشفافية ومحاسبة.
تكشف مؤشرات الاحتقان الاجتماعي أن الحكومة الحالية فقدت كثيراً من شرعيتها السياسية والشعبية، بعدما تحولت القطاعات الوزارية إلى ما يشبه «شركات عائلية» تتقاسم النفوذ والامتيازات.
وقد ساهمت المقاربة الأمنية والارتباك الإعلامي الرسمي في تأجيج الغضب الشعبي واستدعاء ردود فعل دولية نادرة، عبّرت خلالها الأمم المتحدة عن قلقها من تصاعد التوترات.
شعار «أخنوش ارحل» لم يعد مجرد مطلب احتجاجي عابر، بل تحول إلى رمز ثقافي وسياسي يعكس وعياً متزايداً لدى الشباب بقواعد الديمقراطية الدستورية، ورفضاً لمظاهر الفساد الذي صادر أحلامهم في التعليم والعمل والصحة.
يرى التحليل أن دستور 2011، رغم قصوره في بعض الجوانب، ما زال يوفر أرضية صلبة لتصحيح المسار، شريطة وجود إرادة سياسية حقيقية لتفعيل مقتضياته الجوهرية، خاصة مبدأ ربط المسؤولية بالمحاسبة.
وفي هذا الإطار، يمكن تصور خريطة طريق جديدة لبناء الثقة بين الدولة وجيل زد، تتضمن ما يلي:
1- إقالة الحكومة وحل البرلمان كخطوة لإعادة ترتيب المشهد السياسي على أسس جديدة من الشفافية والمحاسبة.
2- فتح نقاش وطني واسع حول «تعاقد سياسي جديد» يضمن مشاركة الشباب في صناعة القرار.
3- تعليق جميع التوظيفات والصفقات العمومية المشبوهة إلى حين تدقيقها من طرف أجهزة المراقبة المالية.
4- إصلاح القانون الانتخابي لضمان تمثيلية حقيقية، ووضع شروط صارمة لتأسيس الأحزاب وإعادة هيكلتها.
5- مكافحة الفساد الإداري والوظيفي من خلال إنشاء هيئة وطنية لتدبير الكفاءات والتوظيف بشفافية.
6- إحداث لجنة وطنية للتحقيق في التوظيفات المشبوهة خلال السنوات الأخيرة.
7- إعادة توزيع فرص الشغل والمناصب التمثيلية لتمكين الكفاءات الشابة من المساهمة في خدمة الوطن.
8- إشارات رمزية قوية من الدولة، مثل تعليق بعض الجوائز والمؤسسات غير الفاعلة، لتأكيد جدية الإصلاح.
9- إعادة تعريف مفاهيم السلطة والمواطنة والعدالة الاجتماعية بما يتلاءم مع قيم هذا الجيل الجديد.
10- نقاش مجتمعي مفتوح حول التعليم والصحة العمومية باعتبارهما أساس بناء مغرب جديد.
لكن، كما أن على السلطة واجبات، فإن على الشباب بدورهم مسؤوليات.
فنجاح حراكهم مرتبط بمدى التزامهم بالسلمية والوعي القانوني، وبقدرتهم على تفادي الاختراقات والانجرار وراء المزايدات الحزبية.
إن التغيير الحقيقي لا يتحقق بالصدام، بل بالوعي، والتنظيم، والإصرار على استعادة روح المواطنة الفاعلة.
إن ما يحدث اليوم ليس صراع أجيال بقدر ما هو صراع رؤى: بين من يريد مغرباً جديداً ببرامج حديثة، ومن يتمسك بنسخ سياسية متقادمة.
المستقبل لن يكون لجيل «الفراقشية – جونيور»، بل لجيل المعرفة، والكرامة، والعدالة الاجتماعية.
وحده التحالف بين السلطة والشباب ضد الفساد يمكن أن يفتح الباب أمام مغرب ديمقراطي، منفتح، ودامج لجميع أبنائه.
بقلم: أنوار مزروب
باحث في القانون العام والعلوم السياسية – جامعة محمد الخامس بالرباط