بقلم : فريد الحمدوي
شكلت فاجعة إحراق الفنان سوليت بالشارع العام حدثا مأساويا هزت الضمير الإنساني في كل مكان، وأعادت ترتيب التساؤلات في ضمائرنا، فكانت صفعة استفقنا على إثرها على واقع اجتماعي مرير، نعيشه ولا نراه، نصطدم به بشكل يومي ونتجاهله، نلتفت التفاتة طفيفة ثم نتابع المسير بلا ضمير.
رحل سوليت الإنسان، كما سنرحل جميعا، لكننا لن نرضى أبدا أن يكون بنفس المصير، حرقا بالنار وسط الشارع العام، وأمام أنظار ومسمع الجميع، رحيل دق به ناقوس الخطر، وكشف النقاب عن مجموعة من الاختلالات في منظومتنا الصحية، والاجتماعية والأمنية والأخلاقية والإنسانية، عرّت واقعا مرّا، نسكت عنه تواطؤا ، لامبالاة أو انتقاما..
فبالعودة إلى أركان الجريمة، فالجاني من ذوي السوابق العدلية والمرضية، كان بالأحرى أن تقدم له العناية الخاصة، ويكون في مكان آمن له ولنا، كان حري بنا أن ندرك حجم المعاناة التي سببها لذويه قبل غيره، معاناة حملتها عائلته وتجرعتها لسنوات وعقود، في صمت وألم يوما بعد يوم. كما كان حري بنا أن ندرك خطورته على المواطنين شأنه شأن باقي المرضى العقليين الذين يجوبون شوارع مدننا، يقتلون ويجرحون ويغتصبون ذوينا، وأعين المسؤولين عنا تنظر ولا ترى، أو ترى ولا تبالي، بعد أن عميت بصيرتهم فأصبحنا نعدّ ضحايانا يوما بعد يوم دون أن يتوقف العداد.
أما المجني عليه، فكان قبل كل شيء شخصا من ذوي الاحتياجات الخاصة، يعاني في صمت، أحرقته نار التهميش والتحقير قبل أن تحرقه نيران البنزين، يكافح من أجل قوته اليومي، من أجل مصروفه، وصحته ومرضه، يناضل جهارا بفنه من أجل أن يكون، رغم الإعاقة ورغم ضعف الجسد.. ألم يكن من الأجدر بمهندسي العدالة الاجتماعية في وطننا، أن يمنحوا له مساعدة مادية شهرية ولو بسيطة تغنيه عن السؤال عند الحاجة؟ ألم يكن من الأولى أن يُلتفت إليه وهو في بيته ويُوفّر له من يقوم به وبحاجياته المنزلية اليومية، بعد أن كان يكافح يوميا من أجل البقاء بعيدا عن الأنظار؟؟.
أما مكان الجريمة، فهو مقهى شعبي، يجتمع فيه أبناء الحي، العارفين بأمور بعضهم البعض، والراغبين في خدمات بأرخص الأثمان، في زمن لم يعد فيه الفقر عيبا، بل أصبحنا فقراء بعد نخرنا الغلاء وأثقب جيوبنا. مكان يقصده من يرغب في مضاعفة نصيبه من جرعات الفقر، ومن مسكنات الألم، الم البطالة والإدمان، ألم التهميش والحرمان. مكان افتقر إلى أبسط وسائل الوقاية والإسعافات الأولية، فأطفأت النار بأسطل المراحيض ومناديل النظافة وبأعين الناظرين ألما ومواساة.
أما شهود العيان، الذين كانوا بعين المكان، فمنهم من حاول المساعدة قبل وقوع الفاجعة، ومنهم من فر بجلدته خوفا على حياته لأنه لايملك قدرة على مجابهة شخص يعرفه جيدا ويدرك قوته وخطورته، ومنهم من حاول تقديم المساعدة بشتى الوسائل وأبسطها، بعد أن فاجأه هول الحدث والحرق بالنار، بقطرات ماء وأسطل المراحيض، ومنهم من حاول أن يوثق الحدث المروع، ظنا منه أنه يحاول بذلك توفير عناصر الإدانة بعد أن يخمد الحريق ويقدمها دليلا. ومنهم من ظل صامتا يشاهد المشهد السينيمائي المروع يعرض مباشرة أمام أعينه، ولم يفرق بين ما يشاهده في تلك اللحظة، وبين ما راكمه من مشاهد مماثلة -ملأ بها خزان عقله وضميره – من مواقع التواصل الاجتماعي، فاختلطت عليه الأمور فظل واقفا بلا حراك.
بعد أن نشر الفيدو الذي يوثق ما حدث، وشاهنا الجريمة من زاوية واحدة، أصبحنا أيضا جزء من المشهد، فمنا من تحول إلى محلل سياسي ينتقد السياسات العمومية، وكانت فرصة له في صحوة للضمير، ومنا من تحول إلى مختص في علم النفس يقرأ خبايا سلوك الحاضرين ويعلق على ردود أفعالهم، ويعاتب هذا ويلوم ذاك، ومنا من كان يشتغل في صمت بعيدا عن الأنظار، دون الحاجة إلى تدوينة أو سبق رقمي افتراضي، فكان بذلك يواري سوآتنا ويدفن عيوبنا في مقبرة الأخلاق التي فتحنا أبوابها على مصراعيها، إلى أن سلم الضحية روحه لبارئها، فانتقل إلى دار البقاء بعد ستة أيام.
سوليت لم يكن ضحية للجاني فقط، بل كان ضحية تقاعسنا وصمتنا على واقع مرّ كان يعيشه، ويعيشه الكثير من ذوي الاحتياجات الخاصة وعائلاتهم، سوليت كان يموت أمام أعيننا في صمت في كل لحظة، وكنا ندق مساميرا في نعشه كل يوم، فللم يكن يلتفت إليه أحد في حياته، ولم يكن يدق بابه أحد، كان يمر أمامنا يلقي التحية ويمضي في سلام، سوليت كان ضحية سياسات صحية وثقافية واجتماعية.. فالحقيقة المرة التي نخفيها ولا ندركها، هي إننا مجتمع يمجد الموتى ويجيد البكاء عليهم، ولا يتقن فن العناية بالأحياء ويحسن إليهم، مجتمع يجيد فن المراقبة ومعرفة دقائق الأمور، ولا يحرك ساكنا لتغيير الأمور.
13/10/2025