غرينلاند تبدو، للوهلة الأولى، عملاقةً تكاد تبتلع إفريقيا. هكذا تقدّمها خرائط “غوغل” و“بينغ” و“بيتال”، وكأنها قارةٌ موازية تُعانق القطب المتجمّد الشمالي. صورةٌ رسخت في أذهان الملايين منذ الطفولة، حتى غدت أشبه بـ“حقيقةٍ” لا تقبل النقاش.
لكنّ الواقع مختلفٌ جذرياً: إفريقيا أكبر من غرينلاند بأربعة عشر ضعفاً. فمساحة القارة السمراء، مع مدغشقر، تتجاوز 30.8 مليون كيلومتر مربع، بينما لا تتعدى مساحة الجزيرة الجليدية 2.1 مليون كيلومتر مربع. إنها مفارقة تفضح كيف يمكن لـ“العِلم” أن يخدم السلطة، ولـ“الخريطة” أن تعيد رسم موازين النفوذ بلمسةٍ فنيةٍ تُخفي في طيّاتها خطاباً استعمارياً قديماً.
ومع صعود الوعي الإفريقي في العقد الأخير، بدأ جيلٌ جديد من الشباب يتمرّد على هذه الهيمنة البصرية. ففي غشت الماضي، أطلقت منظمتان شبانيتان، “Speak Up Africa” من السنغال و“Africa No Filter” من جنوب إفريقيا، حملةً رقمية جمعت آلاف التوقيعات للمطالبة بتصحيح هذا الخطأ الجغرافي الفادح الذي حوّل القارة إلى ظلٍّ في خرائط الشمال.
الصحافي الإسباني خافيير ألدكوا كتب في “لافانغوارديا” أن “هذه المبادرة ليست تقنيةً بقدر ما هي سياسيةٌ وثقافية، تعبّر عن كرامة جيلٍ إفريقيٍّ جديدٍ لم يعش زمن الاستعمار، لكنه يعيش تبعاته الرمزية حتى اليوم”.
وقد رحّب الاتحاد الإفريقي بالمبادرة، واعتبرها “جزءاً من صحوة الهوية القارية”، في لحظةٍ تسعى فيها إفريقيا إلى استعادة موقعها الطبيعي في العالم، بعد عقودٍ من التهميش في الخرائط والعقول على السواء.
تعود جذور الخلل إلى القرن السادس عشر، حين واجه رسّام الخرائط الفلمنكي جيراردوس ميركاتور معضلةَ تمثيل الأرض الكروية على سطحٍ مستوٍ دون فقدان دقة الملاحة. فابتكر إسقاطاً أسطوانياً يحافظ على خطوط الطول والعرض مستقيمة، لكنه ضخّم أحجام المناطق القريبة من القطبين، وجعل إفريقيا وأمريكا الجنوبية تبدوان ضئيلتين أمام أوروبا وكندا وروسيا.
تحوّل هذا الإسقاط إلى معيارٍ عالمي، وتبنّته الأميرالية البريطانية في خرائطها البحرية، ثم ورثته وكالات الفضاء والملاحة الحديثة، قبل أن تعتمد عليه “غوغل مابس” بذريعة أنه “الأكثر توافقاً مع العرض التفاعلي الرقمي”. غير أن الواقع أن هذا “التحايل التقني” رسّخ في الوعي الجمعي صورةً مختلّةً للعالم، حيث يحتل الشمال مركز القوة بينما يُدفع الجنوب إلى الهامش.
اليوم، ومع جيلٍ إفريقيٍّ متصالحٍ مع ذاته، يتجدد السؤال: لماذا لا تُرى إفريقيا كما هي — واسعة، قوية، وملهمة؟
فحين تُصغَّر القارة على الورق، تُصغَّر معها مكانتها في المخيال العالمي. وهذا ما يعتبره عددٌ من المفكرين امتداداً لـ“الاستعمار الناعم”، الذي يمارس سلطته لا بالسلاح، بل بالرمز والصورة.