كشفت تطورات القضية المعروفة في الأوساط القضائية الإسبانية باسم “عملية هاديس”، والتي أزاحت الستار عن نفقٍ سري يربط مدينة سبتة المحتلة بمدينة الفنيدق المغربية، عن مشهدٍ جديد في معادلة تهريب المخدرات عبر مضيق جبل طارق، يعيد طرح أسئلة مقلقة حول مدى تغلغل الفساد في الأجهزة الأمنية والمؤسساتية الإسبانية.
فقد قررت المحكمة الوطنية الإسبانية رفض الطعون المقدمة من طرف دفاع ثلاثة متهمين موقوفين على خلفية هذه القضية، مؤكدة وجود دلائل قوية على انخراطهم في منظمة إجرامية دولية محكمة التنظيم، استطاعت بناء شبكة تحت الأرض تمتد من التراب المغربي إلى شبه الجزيرة الإيبيرية.
ووفق ما أوردته تقارير إعلامية محلية بسبتة المحتلة، فإن العملية التي قادها الحرس المدني الإسباني كشفت عن نفق محفور على عمق 12 مترًا يمر تحت ما يسمى “الحدود”، ويصل بين مستودعٍ لتخزين الحشيش بالفنيدق وأحياء في سبتة، مجهّز بمعدات تهوية وإنارة، ما يدلّ على هندسة احترافية تستحيل دون دعم تقني ومؤسساتي.
الأخطر في القضية، حسب مصادر التحقيق، هو الاشتباه في وجود تواطؤ داخل الأجهزة الأمنية الإسبانية نفسها. فقد تضمّنت لوائح المتهمين عنصرًا من الحرس المدني تم توقيفه منذ بداية العام، دون أن تنجح محاولات دفاعه في إثبات براءته.
وأكدت المحكمة في قرارها أن هناك خطرًا حقيقيًا من فرار الموقوف، معتبرة أن انتماءه إلى جهاز أمني لا يمنحه أي امتياز قانوني، بل يضاعف من مسؤوليته الجنائية والأخلاقية.
كما شددت على أن طبيعة الشبكة “الهرمية والمحكمة التنظيم” تجعل من استمرار الحبس الاحتياطي ضرورةً لحماية مسار العدالة، بالنظر إلى اتساع نطاق الشبكة وامتدادها الدولي.
أما المتهم الثاني، فقد وُصف في قرار المحكمة بأنه العقل اللوجستي للشبكة، حيث كان يشرف على عمليات النقل والتخزين وتنسيق الشحنات بين المغرب وإسبانيا مرورًا بـميناء الجزيرة الخضراء.
واعتبرت النيابة العامة الإسبانية دوره “أساسيًا ولا غنى عنه”، إذ كان مكلفًا بـحل المشكلات التشغيلية وضمان استمرار تدفق الشحنات دون انقطاع، ما جعل الشبكة تعمل وفق نموذج الشركات العابرة للحدود أكثر من كونها شبكة تهريب تقليدية.
لم يكن اكتشاف النفق مجرد حدثٍ أمني، بل هزّ البنية السياسية والأمنية في سبتة، المدينة التي تحوّلت منذ عقود إلى منصة لوجستية كبرى للتهريب المنظم تحت غطاء الاقتصاد الحدودي.
ففي الوقت الذي تواصل فيه مدريد تحميل المغرب مسؤولية “تهريب الحشيش”، كشفت هذه العملية أن جزءًا من المنظومة الإسبانية نفسها متورط بعمق في اقتصاد المخدرات العابر للحدود، وأن “التهريب” ليس نتيجة ضعف مراقبة مغربية، بل نتيجة تحالف مصالح داخل المؤسسات الإسبانية.
العملية حملت اسم “هاديس” (Hades)، وهو إله العالم السفلي في الأسطورة الإغريقية، في اختيار رمزي عميق يعكس طبيعة الشبكة التي بنت عالمها الخاص في “باطن الأرض”.
لقد كان النفق – بكل رمزيته – تجسيدًا حرفيًا لعالمٍ موازٍ من الفساد والتواطؤ والتجارة غير المشروعة، تلتقي فيه المصالح الأمنية والسياسية والمالية على حساب القانون والسيادة.
وتؤكد مصادر مقربة من دوائر المراقبة الحدودية بالمغرب أن التعاون الأمني بين الرباط ومدريد يظل قائمًا ومتينًا، غير أن القضايا المتكررة التي تكشف ثغرات داخلية في المنظومة الأمنية الإسبانية تفرض إعادة تقييم طبيعة هذا التعاون.
فبينما تبذل الأجهزة المغربية جهودًا متواصلة لمحاربة شبكات التهريب وتفكيكها، تكشف “هاديس” أن المشكل الحقيقي قد يكون داخل الجهة الأخرى من الحدود.
القضية لم تُغلق بعد، والتحقيقات لا تزال جارية بتنسيق بين وحدات مكافحة الجريمة المنظمة في مدريد وسبتة والجزيرة الخضراء.
ومع كل يومٍ يمر، يتأكد أن “عملية هاديس” ليست مجرد ملف قضائي، بل مرآة تعكس تعقيدات العلاقة بين الأمن والاقتصاد والحدود والسياسة في منطقة تُعد من أكثر النقاط حساسية في غرب المتوسط.
ففي عمق النفق الممتد بين الفنيدق وسبتة، لا تمر شحنات الحشيش فحسب، بل تمر حقائق ثقيلة عن تواطؤ وصمت ومصالح تتقاطع بين العالم السفلي والسطح السياسي.
وفي النهاية، تبدو “عملية هاديس” أكثر من مجرد ملف تهريب أو نفقٍ تحت الأرض؛ إنها مرآة عميقة لوجهٍ خفيّ من العلاقات المغربية الإسبانية، حيث تختلط المصالح الاقتصادية بالاختراقات الأمنية، وتتقاطع الأيادي الرسمية مع شبكاتٍ لا ترى النور.
ففي الوقت الذي يواصل فيه المغرب حربه اليومية ضد تهريب المخدرات والجريمة المنظمة، تكشف “هاديس” أن التهديد لم يكن على الحدود فقط، بل في عمق المؤسسات الإسبانية نفسها.
لقد شقّ النفق طريقه من تحت التراب، لكنه شقّ أيضًا جدار الصمت السياسي والإعلامي، ليُخرج إلى السطح أسئلة ثقيلة عن المسؤولية والمحاسبة وحدود السيادة.
وربما أُغلق النفق بالإسمنت، لكن ما لم يُغلق بعد هو السؤال الأكبر:
من الذي يحفر تحت الثقة بين الرباط ومدريد؟
وهل يكفي القضاء الإسباني لردم عالمٍ كاملٍ من الفساد يتغذّى من تحت الأرض؟