قبل أسابيع قليلة من الذكرى الخمسين لوفاة الجنرال فرانكو، يعود اسم الملك الإسباني السابق خوان كارلوس الأول إلى الواجهة، وهذه المرة ليس عبر تحقيقات مالية أو زيارات مفاجئة إلى مدريد، بل من خلال مذكراته المنتظرة التي تحمل عنوان”المصالحة” (Reconciliación)، والتي بدأ في الترويج لها من منفاه الاختياري في أبوظبي.
في مقتطفات نشرتها صحيفة لوفيغارو الفرنسية، كشف الملك السابق عن تفاصيل مثيرة في مسيرته، قائلاً إن فرانكو اختاره لقيادة “نظام أكثر انفتاحاً”، مضيفاً بسخرية: “أعلم أنني سأُهاجم… سأشتري درعاً”.
الكتاب، الصادر أولاً في فرنسا يوم 5 نونبر قبل أن يصل إلى المكتبات الإسبانية في دجنبر، يتألف من 512 صفحة من الاعترافات السياسية والتاريخية، شاركت في تحريرها الكاتبة الفرنسية لورانس دوبري، المعروفة بعلاقتها الوثيقة مع العائلة الملكية الإسبانية.
يقول خوان كارلوس في مذكراته إنه قرر الكتابة بعدما لاحظ أن “أبناء وأحفاد أصدقائه لا يعرفون شيئاً عن فرانكو ولا عن مرحلة الانتقال الديمقراطي”، مشيراً إلى أن “الديمقراطية لم تسقط من السماء”.
ويستعيد الرجل الذي حكم إسبانيا أربعة عقود ، لحظات من تلك المرحلة الحساسة التي أعقبت وفاة فرانكو، مؤكداً أن البلاد كانت تسير على حافة الهاوية بين السلطوية والتغيير.
كما تناول في حديثه أبرز المحطات التي مرّ بها، من بينها محاولة الانقلاب العسكري سنة 1981، قائلاً إنه لم يكن أمامه سوى خيار “إنقاذ الديمقراطية”، في إشارة إلى ظهوره التلفزيوني الذي حسم مصير الانقلاب حينها.
وفي معرض حديثه عن علاقته بوالده، دون خوان، يذكر أنه أوصاه بألا يكتب مذكراته أبداً، لكنه اليوم يخالف وصيته “ليقدّم شهادة للتاريخ، لا لتصفية الحسابات”.
الكتاب أثار منذ إعلان عنوانه عاصفة سياسية وإعلامية في مدريد، حيث يرى البعض أنه محاولة لتلميع صورة ملكٍ فقد بريقه بعد اتهامات بالفساد وتورطه في صفقات مالية غامضة، فيما يعتبره آخرون خطوة لتصفية حسابات مع الماضي الإسباني الذي ما زال يثير حساسيات بين اليمين واليسار.
وتزامن نشر المذكرات مع اقتراب إسبانيا من موسم انتخابي متوتر، ما جعل مراقبين يحذرون من أن تصريحات الملك السابق قد تستعمل كورقة ضغط رمزية في الصراع السياسي الداخلي.
من أبوظبي، يدوّن الملك الإسباني السابق فصول ذاكرته بحثاً عن مصالحة مع ماضيه…
وفي مدريد، تنشغل الطبقة السياسية بتأويل كل سطر في مذكراته، بين من يراها شهادة للتاريخ ومن يقرأها كمحاولة لتبييض صفحة مُثقلة بالفضائح.
أما من الضفة الأخرى للمتوسط، في المغرب، فننظر إلى المشهد بعينٍ أخرى، أكثر اتزاناً وعمقاً.
فالمغاربة، الذين خبروا معنى الاستمرارية في ظل الإصلاح، يدركون أن المَلَك ليس مجرد شاهد على التاريخ، بل صانعه الأول. فبينما يلجأ ملوك أوروبا إلى الورق لتبرير الماضي أو الدفاع عن صورتهم، يترك الملوك المغاربة التاريخ نفسه يتحدث عنهم من خلال الفعل والبصمة: مشاريع تنموية، إصلاحات مؤسساتية، وسياسة خارجية متزنة جعلت المغرب فاعلاً محترماً في محيطه الإفريقي والمتوسطي.
وربما هنا يكمن الفارق الحقيقي بين ملك يكتب ليشرح ما فعل، وملكٍ يصنع ما يُكتب عنه.
ففي حين يفتّش خوان كارلوس في ذاكرته عن “مصالحة شخصية”، يعيش المغرب منذ عقود مصالحة وطنية حقيقية، أعادت للبلاد ثقتها في نفسها، وللذاكرة الجماعية كرامتها.
لذلك، حين نقرأ اعترافات الملك الإسباني من الرباط، لا نفعل ذلك بفضول صحفي، بل بابتسامة مغربية تعرف أن التاريخ لا يُكتب بالكلمات فقط، بل بالاستمرارية والبصيرة.
29/10/2025











