تتحرك الزوارق في ليل مضيق جبل طارق بهدوءٍ قاتل، بينما تتوهج على شاشات الهواتف المحمولة نقاطٌ مضيئة تمثل “العيون” المنتشرة على الساحل. هناك، في عمق الجنوب الإسباني، لا تدور المعركة بالسلاح وحده، بل بالإشعارات الفورية والرسائل المشفّرة.
تطبيق تليغرام، الذي صُمم للتواصل الاجتماعي، تحوّل إلى أخطر شبكة استخبارات غير رسمية في مقاطعة قادس. ففي مجموعات سرية مغلقة، يراقب المئات من المراهقين ، كثير منهم لا يتجاوزون الخامسة عشرة من عمرهم ، تحركات وحدات الحرس المدني الإسباني لحظة بلحظة. أحدهم يكتب: “هل ظهرت سفينة ريو تييتار؟”، وآخر يردّ: “اختفت منذ الصباح، ربما اتجهت نحو مصبّ الوادي”. وبين هذه الرسائل العابرة، تُدار عمليات تهريب كبرى بحرفية عسكرية ودقة رقمية.
يقول أحد عناصر الخدمة البحرية الإسبانية، المخضرم في مطاردة المهربين: “هؤلاء الصبية يراقبوننا من كل مكان. يبدون كصيادين، لكن لا صنارة حقيقية ولا طُعم. كل شيء تمويه. يرسلون إشارات للمهربين عند خروجنا أو عودتنا مقابل بضع أوراق نقدية. المدهش أن بعض كبار زعماء العصابات اليوم بدأوا من هنا، كـ‘نقطة’ صغيرة على الشاطئ.”
في هذه المجموعات الإلكترونية، تُنشر صور حديثة للدوريات البحرية والجوية، خرائط تفصيلية، بل وحتى بيانات من رادارات رقمية تُظهر تحركات الزوارق والمروحيات. أحد الضباط يضيف بقلق: “يراقبوننا في البحر والجو. في المجموعات يكتب أحدهم ‘الطائر متجه إلى كوريا’، في إشارة إلى مروحية الحرس المدني. يعرفون كل شيء، حتى مواعيد تبديل الطواقم. بالأمس ظلّوا يبحثون عن موقع سفينة تييتار حتى رصدوها قرب مصبّ نهر غوادالكويفير.”
في هذا العالم المظلم، يتخذ التهريب شكل هرمٍ دقيق التنظيم. في قاعدته يقف “النقاط” الذين ينبهون العصابات إلى تحركات الأمن. يليهم “الحمّالون” الذين ينقلون الشحنات من الشاطئ إلى سيارات الدفع الرباعي، ثم “قادة الزوارق المطاطية” الذين يتقاضى بعضهم ما يصل إلى خمسين ألف يورو في رحلة واحدة. بعدهم “السائقون”، و“حراس المستودعات” حيث تُخزَّن البضائع، و“الموزعون”، ثم “مالكو الشحنات” و“القائمون على غسل الأموال” الذين يُدخلون الأرباح في الدورة القانونية. شبكة محكمة تشبه مؤسسة مالية سرّية أكثر منها عصابة عشوائية.
هذه الظاهرة، التي تُقلق الأجهزة الأمنية الإسبانية، تمتد بتأثيرها إلى الساحل الجنوبي للمغرب المقابل، حيث تشكل ضفّتا المتوسط فضاءً مشتركًا لعمليات التهريب المنظمة التي تستغل كل ثغرة في البحر أو في الفضاء الرقمي. ومع تنامي دور التكنولوجيا في هذه الشبكات، يبدو أن الحرب على المخدرات لم تعد تُخاض على الأمواج أو في الأزقة، بل في الفضاء الافتراضي حيث الرسائل المشفّرة تحلّ محل الرصاص، والإشعارات الرقمية تحسم مسار الصراع.
في نهاية هذا الفيلم الواقعي، يتضح أن “تليغرام” لم يعد مجرد تطبيق، بل مسرح جريمة متحرك تديره عصابات الظل من وراء الشاشات. ومن الضفة المغربية، التي لطالما كانت شريكًا في جهود مكافحة التهريب، يبرز النداء واضحًا لتكثيف التعاون الأمني والاستخباراتي مع مدريد، من أجل مواجهة جيل جديد من المجرمين الذين لا يختبئون في الكهوف أو المراكب، بل خلف شاشات مضيئة، تُدار منها معارك بلا صوت… لكن بصدى مدوٍ يعبر المتوسط.
03/11/2025











