في خطوة وُصفت بأنها تحول قضائي غير مسبوق، أصدرت المحكمة العليا الإسبانية حكمًا نهائيًا يُلزم القنصليات وشركة BLS المتعاقدة معها باحترام المقتضيات القانونية والإدارية في معالجة طلبات التأشيرات، معتبرة أن الشركة امتداد رسمي للإدارة الإسبانية، وليست جهة وسيطة مستقلة كما كانت تزعم وزارة الخارجية.
بهذا القرار المهم ، تُغلق المحكمة الباب أمام سنواتٍ من “التلاعب الإداري” الذي حوّل عملية طلب التأشيرة إلى متاهة بيروقراطية مرهقة، يدفع ثمنها عشرات الآلاف من المواطنين، وعلى رأسهم المغاربة، الذين يشكّلون الشريحة الأكبر من طالبي التأشيرات نحو إسبانيا.
القاضي الإسباني خوسيه لويس كيسادا، الذي صاغ الحكم، اعتبر أن العلاقة بين القنصليات وشركة BLS “ليست تعاقدًا تجاريًا”، بل تفويضًا في ممارسة سلطة الدولة، ما يعني أن جميع الإجراءات والقرارات الصادرة عنها تُحمّل الإدارة الإسبانية المسؤولية الكاملة.
وبهذا، تنتصر المحكمة للمنطق القانوني، وتضع حدًا لسياسة “التفويض غير المسؤول” التي اعتمدتها وزارة الخارجية الإسبانية خلال السنوات الأخيرة، من خلال ما يُعرف بسياسة الاستعانة بمصادر خارجية في مراقبة الحدود والإجراءات القنصلية.
ويُرتقب أن يُجبر هذا القرار الحكومة الإسبانية على إعادة النظر في منظومة التأشيرات، وإلغاء أي تمييز أو بيروقراطية مفرطة تمس بحقوق طالبيها، الذين وصل عددهم إلى نحو 1.5 مليون شخص سنويًا.
القضية بدأت سنة 2023 حين رفضت القنصلية الإسبانية في طنجة طلب تأشيرة تقدّم به أحد المواطنين، بحجة أن الملف وصلها “بعد فوات الأجل القانوني”، رغم أن المعني أودع طلبه في الوقت المحدد لدى شركة BLS.
وبعد معركة قضائية طويلة، أكدت المحكمة العليا أن اللحظة القانونية لتقديم الطلب هي تاريخ تسليمه إلى BLS وليس إلى القنصلية، وبالتالي فإن مسؤولية التأخير تقع على الإدارة الإسبانية نفسها.
ويؤكد المحامي مانويل فيليبي غارونيا، الذي قاد الدعوى، أن الحكم يضع حدًا “لتواطؤ إداري مقنّع”، ويُلزم الدولة بتحمّل مسؤوليتها أمام المواطنين والأجانب على حد سواء، مشيرًا إلى أن “الاستعانة بشركات خاصة لمراقبة الحدود والإجراءات القنصلية تُعتبر تفويضًا للسيادة، وهو أمر لا ينسجم مع القانون الإسباني”.
الحكم الجديد يسلّط الضوء أيضًا على ما وصفه الحقوقيون بـ”سوق المواعيد السوداء” المنتشرة أمام بعض القنصليات الإسبانية، حيث يتم بيع مواعيد تقديم التأشيرات بمبالغ قد تصل إلى 1500 يورو، في ظل ندرة المواعيد وضعف المراقبة على الشركة المتعاقدة.
في هذا السياق، كشفت مصادر مهنية أن بعض موظفي BLS يفتقرون إلى التكوين الإداري والقانوني الكافي، ما جعل عملية استقبال الملفات والتحقق منها تتحوّل إلى مغامرة محفوفة بالعشوائية والتأخير، الأمر الذي قوّض ثقة طالبي التأشيرة في شفافية النظام القنصلي الإسباني.
المفارقة الصارخة التي أبرزها المحامي الإسباني نفسه، أن قنصليات إسبانيا في موسكو أو باريس تُعالج طلبات التأشيرة في غضون أيام، بينما تنتظر قنصلية الناظور والدار البيضاء أو طنجة أسابيع وشهور، ما يعكس — بحسبه — “نظرة استعمارية مبطّنة تُفرّق في سرعة الخدمات بين جنوبٍ وشمالٍ لا يفصل بينهما سوى المتوسط”.
وبينما تبرّر القنصليات الإسبانية هذا التفاوت بـ”ضغط الطلبات”، يرى متابعون أن السبب الحقيقي هو الفساد الإداري وغياب المراقبة الصارمة على مكاتب الوساطة، التي تحوّلت من أدوات تنظيمية إلى “حواجز إدارية” تُعمّق الفجوة بين المواطن المغربي والسلطات الإسبانية.
إن الحكم الصادر عن المحكمة العليا الإسبانية لا يُعيد فقط الاعتبار إلى العدالة الإدارية، بل يفتح نقاشًا أعمق حول كيفية تعامل أوروبا مع جيرانها الجنوبيين، وحول مفهوم “الخدمة القنصلية” الذي تحوّل إلى امتياز لا يُمنح إلا بعد معاناة طويلة.
وفي الوقت الذي تتذرّع فيه مدريد بنقص الموارد أو تعقيد الملفات، نجد أن المملكة المغربية استطاعت أن تُدير منظومتها القنصلية المنتشرة عبر العالم بكفاءة واحترام، وتقدّم خدماتها لمواطنيها في الخارج بروح المسؤولية والكرامة، دون تفويض للقطاع الخاص في مهام سيادية.
03/11/2025
 
            
                
                                  
                                  
                                  
                                  
                                  
                                  
                                  
                                  
                                  
                                  
                                  
                                  
                                  
                                  
                                  










