تشهد مدينة الفاشر، عاصمة ولاية شمال دارفور، ومدينة كادقلي في جنوب السودان، مأساة إنسانية غير مسبوقة بعد أن أعلن مرصد الأمم المتحدة للتصنيف المرحلي المتكامل للأمن الغذائي دخولهما رسمياً مرحلة المجاعة الكاملة، في وقتٍ تتواصل فيه الحرب الطاحنة بين قوات الدعم السريع والجيش السوداني، التي حولت البلاد إلى بؤرة جوع وموت بطيء.
ويعد هذا الإعلان الأممي الأول من نوعه منذ بداية الحرب قبل أكثر من عامين ونصف، حيث أكّد التقرير أن المدنيين المحاصرين في الفاشر عاشوا أوضاعاً مأساوية وصلت حدّ أكل علف الحيوانات وجلودها بسبب انقطاع الإمدادات الغذائية خلال حصار استمر نحو 18 شهراً، قبل سقوط المدينة بيد قوات الدعم السريع نهاية أكتوبر الماضي.
تكرّر دارفور اليوم فصول مأساتها التي عرفها العالم في بدايات الألفية الجديدة، فبحسب شهادات نقلتها وكالة “رويترز”، فإن الطائرات المسيّرة كانت تستهدف الأماكن التي يتجمع فيها السكان لتناول وجباتهم القليلة في ما يسمى “المطابخ العامة”، في مشهدٍ يعيد إلى الأذهان أبشع صور الإبادة والتجويع كسلاح حرب.
وقال سيلفان بينيكود، منسق منظمة أطباء بلا حدود، إن معظم الأطفال الذين تمكنوا من الفرار إلى بلدة طويلة المجاورة يعانون من سوء تغذية حادّ، بينما وصل البالغون في حالة من الهزال الشديد، مؤكداً أن “المأساة تجاوزت حدود التصوّر الإنساني”.
في المقابل، أعلن ممثلو الادعاء في المحكمة الجنائية الدولية بدء جمع أدلة حول جرائم قتل جماعي واغتصاب ارتكبت عقب سيطرة قوات الدعم السريع على مدينة الفاشر، بينما شددت رئيسة اللجنة الدولية للصليب الأحمر، ميريانا سبولياريتش، على أن “التاريخ يعيد نفسه في دارفور، لكن الصمت هذه المرة أكثر قسوة”.
وفقاً للتقرير الأممي، فإن عدد السودانيين الذين يعانون من انعدام الأمن الغذائي الحاد بلغ 21.2 مليون شخص، أي ما يعادل نحو 45% من إجمالي سكان البلاد، رغم تراجع نسبي بفضل تحسن الأوضاع في مناطق وسط السودان الخاضعة لسيطرة الجيش. لكن دارفور وكردفان لا تزالان تواجهان انهياراً شاملاً في سبل المعيشة وارتفاعاً جنونياً في الأسعار، في ظل انقطاع المساعدات الإنسانية وتراجع الدعم الدولي.
وبينما تتجه الأنظار إلى دارفور، يحذر التقرير من تحوّل كردفان إلى جبهة حرب جديدة، حيث تتقاطع السيطرة بين الدعم السريع والجيش، ما جعل المدنيين هناك رهائن للجوع والخوف. كما أفاد الهلال الأحمر السوداني بمقتل ثلاثة من متطوعيه في ولاية شمال كردفان على يد عناصر يُعتقد انتماؤهم لقوات الدعم السريع، وهو ما نفته الأخيرة.
من الرباط إلى الخرطوم، تتوحد مشاعر الأسى إزاء كارثةٍ تذكّر العالم بأن الإنسان العربي والإفريقي يُقتل مرتين: مرة بالسلاح، ومرة بالإهمال الدولي.
فبينما تتقاذف القوى الإقليمية والأممية مسؤولية ما يجري، تبقى دارفور والفاشر وكادقلي شاهداً على زمنٍ صار فيه الجوع أداة حرب، والمجاعة ورقة ضغط في صراع على السلطة لا يرحم الفقراء.











