بعد مرور مائة عام على الإنزال العسكري الإسباني في خليج الحسيمة سنة 1925، الذي شكّل نقطة تحول في حرب الريف ومرحلة فاصلة في الوجود الاستعماري الإسباني بشمال المغرب، تستعيد المؤرخة سوسانا سويرو سيواني هذا الحدث من زاوية أكاديمية جديدة، بعيدة عن الخطاب الدعائي والاستعلائي الذي طبع الأدبيات الاستعمارية القديمة.
في حديثها لصحيفة محلية بمناسبة الدورة التكوينية التي تنظمها جامعة التعليم عن بعد UNED بملّيلة تحت عنوان: «بداية نهاية الحرب الريفية: الإنزال في الحسيمة»، أكدت سيواني أن دور المؤرخين اليوم هو تحليل الماضي وتفسيره بروح نقدية، لا تمجيده أو تبريره، معتبرة أن النقاش حول هذا الحدث ما زال محاطاً بحساسية سياسية وتاريخية بين المغرب وإسبانيا.
توضح المؤرخة أن السياق الذي سبق الإنزال كان يتّسم بانكسار عميق داخل المؤسسة العسكرية الإسبانية عقب الهزيمة المدوية في معركة أنوال (1921) أمام قوات محمد بن عبد الكريم الخطابي، التي فرضت نفسها كقوة منظمة ومؤثرة في شمال المغرب، وأعلنت قيام جمهورية الريف.
ومع وصول الجنرال بريمو دي ريفيرا إلى الحكم سنة 1923 عبر انقلاب عسكري، أصبح “المشكل المغربي” أحد أبرز تحديات نظامه. وبعد سلسلة من الانسحابات الفاشلة من المناطق الداخلية، لجأ النظام إلى خطة عسكرية مشتركة مع فرنسا، انتهت بتنفيذ عملية الإنزال في شواطئ الحسيمة في سبتمبر 1925، بمشاركة قوات برية وبحرية ضخمة، مدعومة من سلاح الجو الفرنسي.
تقول سوسانا سويرو إن الإنزال في الحسيمة لم يكن “معجزة” كما رُوّج له في الأدبيات العسكرية الإسبانية، بل “عملية معدّة بدقة، استفادت من دعم لوجستي فرنسي وتفوق ناري ساحق”.
تُبرز الباحثة أن عبد الكريم الخطابي لم يكن مجرد خصم عسكري، بل “قائد استثنائي جمع بين الكفاءة العسكرية والفكر السياسي، واستطاع أن يوحّد القبائل الريفية حول مشروع دولة حديثة”.
وتضيف أن خطأه الاستراتيجي الوحيد تمثل في مهاجمته للمنطقة الفرنسية سنة 1925، ما سرّع التحالف بين باريس ومدريد ضده.
وبالرغم من هزيمته في السنة الموالية، فقد تحوّل الخطابي إلى رمز عالمي لمناهضة الاستعمار، ألهم فيما بعد قادة مثل جمال عبد الناصر وهو شي منه وتشي غيڤارا.
توضح المؤرخة أن الجدل حول تخليد الذكرى المئوية لإنزال الحسيمة يعكس الانقسام في المجتمع الإسباني بين من يراه “إنجازاً عسكرياً”، كما يروّج له حزب اليمين المتطرف Vox، وبين من يعتبره “رمزاً من رموز الحقبة الاستعمارية التي ينبغي تقييمها نقدياً”.
ولذلك، اختارت الحكومة الإسبانية الحالية تجنّب أي احتفال رسمي، احتراماً لحساسية الملف مع المغرب.
وتضيف سيواني أن الهدف من الدورة الأكاديمية ليس تمجيد الماضي، بل تحليله في ضوء المعطيات الجديدة والأرشيفات الموثقة، مؤكدة: “مهمتنا كمؤرخين ليست صناعة أبطال أو أعداء، بل فهم السياقات التاريخية وتحليلها بعيداً عن التوظيف السياسي”.
تظل معركة الحسيمة لحظة فاصلة في الذاكرة الوطنية، إذ جسدت نهاية مرحلة من المقاومة المسلحة وبداية أخرى من النضال السياسي من أجل الاستقلال.
ورغم مرور قرن على الحدث، لا يزال الريف المغربي يحتفظ بذاكرة حية تجاه تلك الحقبة، بين جرحٍ تاريخي لم يُشفَ بعد ورغبةٍ في بناء قراءة مشتركة متوازنة بين المغرب وإسبانيا.
وفي الوقت الذي تنفتح فيه بعض الجامعات الإسبانية على مراجعة نقدية لماضيها الاستعماري، يبقى السؤال قائماً:
هل يمكن أن يتحول “الإنزال في الحسيمة” من رمز للغزو العسكري إلى فرصة لحوار تاريخي ناضج بين الشعبين؟
04/11/2025











