يجسد مشروع قانون المالية لسنة 2026، محطة جديدة في مسار تنزيل ورش الجهوية المتقدمة، من خلال وضع التنمية الترابية في صلب السياسة الميزانياتية للمملكة.
ويروم مشروع قانون المالية لسنة 2026، الذي تمت صياغته كميزانية توازن بين العدالة المجالية، الفعالية والقرب، إلى تمكين الجهات من وسائل معززة لدعم إحداث فرص الشغل، وتسريع الاستثمارات العمومية والخاصة، وتقليص الفوارق الجهوية عبر حكامة جيدة للموارد المحلية.
ويرتكز هذا الطموح مباشرة على التوجيهات الملكية السامية الواردة في خطاب العرش بتاريخ 29 يوليوز 2025، والذي دعا فيه الملك محمد السادس إلى “الانتقال من المقاربات التقليدية للتنمية الاجتماعية، إلى مقاربة للتنمية المجالية المندمجة”.
ويتعلق الأمر بهدف واضح يتمثل في إطلاق نقلة حقيقية لتدارك التفاوتات، حتى تشمل ثمار التقدم والتنمية كل المواطنين. ويوجد في صلب هذه الدينامية الجديدة إطلاق جيل جديد من برامج التنمية الترابية.
وتتمحور هذه البرامج، التي ترتكز على تثمين الخصوصيات المحلية، وتعزيز الجهوية المتقدمة، وعلى مبدأ التضامن بين الكيانات الترابية، حول أربعة محاور ذات الأولوية، تتمثل في النهوض بالتشغيل المحلي، وتعزيز الخدمات الاجتماعية الأساسية (التعليم، الصحة..)، والتدبير المستدام للموارد المائية في مواجهة الإجهاد المائي، بالإضافة إلى التأهيل الترابي المندمج، انسجاما مع الأوراش الوطنية الكبرى.
وجاءت التوجيهات الملكية السامية الواردة في خطاب افتتاح الدورة الأولى من السنة التشريعية الخامسة من الولاية الحادية عشرة لتكرس هذه الرؤية، حيث دعا الملك محمد السادس إلى “إعطاء عناية خاصة للمناطق الأكثر هشاشة، بما يراعي خصوصياتها وطبيعة حاجياتها، ولا سيما المناطق الجبلية والواحات”.
كما دعا الملك إلى “التفعيل الأمثل لآليات التنمية المستدامة للسواحل الوطنية، بما في ذلك القانون المتعلق بالساحل والمخطط الوطني للساحل”، وكذا “توسيع نطاق برنامج المراكز القروية الناشئة باعتباره آلية ملائمة لتدبير التوسع الحضري والتخفيف من آثاره السلبية”.
ولتوفير الاعتمادات اللازمة لهذه الدينامية، تم تضمين مشروع قانون المالية آليات ملموسة، يجسدها البرنامج ذي الأولوية لهذه السنة، والذي يستهدف تنفيذ إجراءات سريعة ذات أثر اجتماعي قوي بالمناطق القروية وشبه الحضرية، والذي خصص له غلاف مالي أولي بقيمة 20 مليار درهم.
وعلى الصعيد الهيكلي، تم إحداث “صندوق التنمية الترابية المندمجة” ليحل محل “صندوق التنمية القروية والمناطق الجبلية”، مع رصد اعتمادات للأداء تبلغ 5 ملايير درهم برسم سنة 2026، وترخيص بالالتزام المسبق بمبلغ 15 مليار درهم من اعتمادات سنة 2027.
وأوضح الخبير الاقتصادي محمد جدري، في تصريح لوكالة المغرب العربي للأنباء، أن مشروع قانون المالية لسنة 2026 يجسد محطة مهمة في الطريقة التي تنظر الدولة من خلالها للتنمية الترابية.
ويرى جدري أن الأمر يتعلق بشكل واضح بإرادة حقيقية للقطع مع المقاربات المجزأة السابقة، من أجل اعتماد رؤية مندمجة، أكثر توازنا وعدالة للاستثمار العمومي.
وأضاف أن “مشروع قانون المالية لسنة 2026 يجسد إعادة توجيه إستراتيجي حول التماسك الترابي، من خلال إرساء جيل جديد من البرامج المندمجة”.
وأوضح الخبير الاقتصادي أن “هذه الميزانية تطمح إلى إعادة إعطاء المجالات الترابية المكانة التي تستحقها، ليس فقط باعتبارها مجرد فضاءات للتنفيذ، ولكن كرافعات حقيقية للتنمية الاقتصادية والاجتماعية”.
وسجل أن ما يميز هذه المقاربة الجديدة يكمن أولا في بعدها المندمج، والذي يتجاوز مضاعفة مشاريع قطاعية معزولة، لتباشر بناء مشاريع ترابية كاملة تجمع بين البنيات التحتية، والتشغيل، والتكوين، والإدماج الاجتماعي، والاستدامة البيئية.
وتركز هذه السياسة، بعد ذلك، على استهداف مجالات ترابية هشة قصد تصحيح الاختلالات التي تحول دون تحقيق التماسك الوطني.
وأضاف أن مشروع قانون المالية لسنة 2026 يتضمن أدوات جديدة، ولاسيما تخصيص اعتمادات مالية لهذا الغرض، وتعزيز دور الجماعات الترابية، معتبرا أن هذه “المقاربة تمثل تطورا منطقيا، حيث ننتقل من تدبير ممركز وعمودي إلى حكامة ترابية وتشاركية أكثر”.
واعتبر، بالموازاة مع ذلك، أن التحدي الأكبر يتمثل في الاستدامة المالية، والتي دعا، من أجل حقيقها، إلى الجمع بين عدة رافعات، موضحا أنه يتعين إعطاء الأولوية للاستثمارات ذات الأثر القوي، أي تلك التي توفر المزيد من القيمة المضافة ومن فرص الشغل على الصعيد المحلي، ثم مأسسة صندوق موجه للتنمية الترابية.
وشدد الخبير الاقتصادي على ضرورة تعزيز الجباية المحلية، وتعبئة شراكات بين القطاعين العام والخاص، وكذا الاستفادة من التمويلات الدولية.
وبحسب جدري، فإن مشروع قانون المالية لسنة 2026 يعتمد، بالإضافة إلى ذلك، مقاربة تصبح فيها المجالات الترابية فاعلا قائم الذات في مجال التنمية، وليس مجرد مستفيدة، معتبرا أن استدامة هذا التجديد تبقى رهينة بثلاثة عوامل، هي تنزيل عملي فعال عبر التعاقد، واستقلالية مالية معززة للجماعات الترابية، وحكامة ترتكز على الشفافية.
ويمثل مشروع قانون المالية، باعتباره أكثر من مجرد أداة مالية، منعطفا حقيقيا في الحكامة العمومية، جاعلا من النهوض بالمجالات الترابية وتنميتها حجر الزاوية في السياسة التنموية للمملكة.
و – م – ع :











