كانت ليلة دافئة في أكتوبر 2024، تلمع فيها أضواء ماربيا على وجه البحر مثل فصوص ألماس نُثرت على مرآةٍ زرقاء.
في تلك الليلة، خرج رجل من مطعم فاخر بخطواتٍ مطمئنة، ومعه شخص يحرسه ، يحمل على كتفيه مزيجاً من الغطرسة والخوف ، رجل يعرف أنه يملك المال، لكنه يعرف أيضاً أن لكل صفقة ظلّاً أطول من ثمنها.
ذلك الرجل المسمى “رشيد”، أحد أبرز المهربين المنحدرين من الناظور، والمطلوب دولياً في ملفات مرتبطة بتهريب المخدرات وتبييض الأموال.
لكن في تلك الليلة، لم تكن النجوم تراقبه وحدها.
عند باب المطعم، توقفت سيارتين سوداوتين بنوافذ داكنة ، خرج منهما رجال ملثمون، يتحركون بدقةٍ عسكرية. لم تُسمع سوى صرخة قصيرة، ثم انغلق الباب، وتلاشت السيارتان في أزقة ماربيا الصامتة.
بعد أيام، عُثر على رشيد مرمياً في بلدة توري دي بيناغالبون، هزيلاً، مرعوباً، وجسده يحمل آثار تقييدٍ وتعذيبٍ خافتة.
أطلقت الشرطة الإسبانية على التحقيق اسم «وولفرين» العملية التي كشفت شبكة عنف تمتد من مالقة إلى باريس، حيث تتقاطع المافيا الفرنسية مع عصابات التهريب القادمة من شمال إفريقيا.
قبل أيام فقط ، اعتُقل 55 شخصاً من ذوي السوابق ورجال العصابات ، وضُبطت 37 قطعة سلاح ناري وتسعة أطنان من المخدرات، في أكبر ضربة أمنية ضد الجريمة المنظمة على الساحل الجنوبي لإسبانيا.
غير أن المفاجأة كانت في اكتشاف أن عملية اختطاف رشيد لم تكن سوى رسالة انتقام داخل حربٍ مالية بين شبكات تهريب كبرى، تتعامل بالملايين وتُصفّي حساباتها بالرصاص والخطف.
رشيد الضحية .سبق أن وشَى برجل أعمال يدعى محمد من الناظور ، في شكاية كيدية زعم فيها أن الأخير كان يتواجد في ماربيا لحظة تعرضه للإختطاف على يد عشرة رجالٍ ضمنهم سود يتحدثون الفرنسية — ادّعى أنهم “من الأفارقة”، لكن التحقيقات كشفت تضارب أقواله وافتعال القصة لتصفية حسابات تجارية.
مصادر أمنية تشير إلى أن سبب استهداف “رشيد” يعود إلى اختلاس مبلغ ضخم ناهز أربعة مليارات سنتيم من صفقة تهريب فاشلة، وأن الجماعة الفرنسية التي اختطفته أرادت “تأديبه” أو استرجاع المال المفقود.
خلف الواجهات الباذخة للفنادق والماركات العالمية في كوستا ديل سول، تدور حربٌ أخرى لا تُرى.
ساحل السياحة الأوروبية تحوّل إلى مسرح دموي تتقاطع فيه مصالح المافيا الفرنسية والهولندية والبلجيكية والسويدية والمغربية ، بل وحتى الروسية ..، وكلها تبحث عن طريقٍ آمنٍ نحو الذهب المغربي الأخضر — الحشيش القادم من شمال إفريقيا.
الشرطة الإسبانية تصف أفراد هذه العصابات بأنهم “ذوو خبرة عسكرية، يتحركون بعقود مالية وبأسلحة مُخبأة في سيارات معدّلة”.
وفي كل شهر، تسقط شبكة، لكن تنبت أخرى من تحت الرماد.
اتهم رجال أعمال من الناظور وآخرين في جنوب إسبانيا في محاولة لخلط الأوراق، لكن التحقيقات أثبتت لاحقاً أن كل ادعاءات رشيد المختطف كانت واهية ، جزء من مخططه القديم لإسقاط أشخاص ورجال أعمال .
شبكات العنف لم تعد تأتي من الخارج، بل تنمو في قلبها — تستغل الموانئ، الأسواق، والفنادق الفاخرة لتخفي تحتها اقتصاداً أسود بمليارات اليوروهات.
أما المغرب، فصار محور هذه الخيوط كلها: منبع التهريب، ومفتاح الحل الأمني.
فالتعاون الأمني بين الرباط ومدريد مكّن من تفكيك عشرات الشبكات، وحجز 50 طناً من الحشيش خلال أربعة أشهر فقط، في واحدة من أضخم عمليات التنسيق عبر المتوسط.
في نهاية الفيلم الهتشكوكي، لا تُغلق القصة، بل تُترك مفتوحة على المجهول.
رشيد ضحية الإختطاف يعيش اليوم حراً في إسبانيا التي يحمل جنسيتها ، لكن محاطاً بالأشباح — أشباح المال، الانتقام، والوشاية.
أما ماربيا، فتعانق بحرها كل مساء، تخفي تحت أمواجها أسراراً أثقل من الذهب، وأعمق من القاع.
كوستا ديل سول تبتسم للسياح، لكنها تعرف جيداً أن خلف كل شمسٍ تغرب هناك رصاصة لم تُطلق بعد.
07/11/2025











