على ضفاف مارتشيكا، حيث يلتقي البحر بالذاكرة، تستعد الناظور لارتداء ثوبها السينمائي من جديد. المدينة التي كانت بالأمس فضاءً عابراً على خريطة المتوسط، تعود هذا الأسبوع لتصبح منارة للسينما والإنسان وهي تحتضن النسخة الرابعة عشرة من مهرجان الذاكرة المشتركة من 15 إلى 20 نونبر الجاري . حدث ثقافي يتجاوز حدود الفن، ليفتح أبواب الأسئلة الكبرى حول السلام، المصالحة، والعدالة الانتقالية في عالم مثقل بالندوب والذكريات.
ليلة الافتتاح في فندق مارتشيكا لن تكون مجرد حفل رسمي، بل مشهد سينمائي حيّ تتقاطع فيه العدسات مع القصص، والموسيقى مع الوجوه القادمة من مختلف أنحاء العالم … وفي الموازاة، تحتضن قاعة فندق ميركيور الندوة الدولية “حول ضرورة السلام : نحو عدالة انتقالية عالمية”، بمشاركة خبراء وباحثين سيحاولون قراءة معنى العدالة بعد الحروب، وكيف يمكن للسينما أن تُحوّل الألم إلى وعي، والذاكرة إلى جسور بين الشعوب.
ثم تتحرك الكاميرا نحو المركب الثقافي بالناظور، حيث ستغمر العتمة الضوء من جديد لتُعرض مجموعة من الأفلام التي تحفر في عمق التجربة الإنسانية. من فيلم “إخوة الحليب” للمخرجة كنزة تازي، الذي ينسج خيوط الأخوّة وسط الانقسامات، إلى فيلم “الهروب 1944” للمخرج سعيد حسب، الذي يعيد سرد قصص المقاومة خلال الحرب العالمية الثانية بعدسة مغربية تستعيد الذاكرة الكونية. وتواصل العدسة نبش جراح الماضي من خلال “ظل الاستعمار” لحسن البوهرودي، و“الكابانون” لماشا كونداكوفا، حيث تتحول الكاميرا إلى شاهد على النفي والمنفى، وعلى ذاكرة الشعوب التي قاومت النسيان.
المهرجان لا يكتفي بعرض الأفلام، بل يفتح كواليسه لتصبح ورشة مفتوحة للوعي السينمائي. المخرجون والنقاد والمؤرخون سيجتمعون في لقاءات يديرها الباحث رافائيل مورينو، لتبادل التجارب حول كيفية تحويل الصورة إلى أداة توثيق وعدالة، وكيف يمكن للفن أن يرمم ما تهدم في الوجدان الجماعي.
وعلى البساط الأحمر، تمتد لحظة الاعتراف والوفاء. من الفنان سعيد التغماوي إلى النقيب عبد القادر البنحياتي، ومن رئيس جامعة محمد الأول ذ. ياسين زغلول إلى مستشار صاحب الجلالة عمر عزيمان، الذي يعود إلى مدينته الناظور بعد عقود من العطاء في سلك القضاء والفكر، ليُكرَّم على مسيرة جمعت بين العدالة والإنسانية والحكمة.
ولأن السينما مرآة الروح، لن تغيب اللمسة الأنثوية عن هذا المهرجان. فالشاعرة والحقوقية سعاد الصباح ستكون صوت الذاكرة الشعرية، بينما تتولى نجاة بلقاسم، سليلة المنطقة ووزيرة التعليم الفرنسية السابقة، رئاسة لجنة الأفلام الوثائقية، في رمزية تُعيد للمرأة مكانتها كحافظة للذاكرة ومُلهمة للسرد السينمائي.
وفي لحظة وفاء خالدة، تقف الناظور لتصفق لرواد السينما المغربية الراحلين نور الدين الصايل ومحمد عبد الرحمان التازي، اللذين تركا وراءهما إرثاً من الضوء والفكر والابتكار، سيبقى منقوشاً في ذاكرة الفن السابع المغربي.
أما المشهد الختامي، فسيكون أقرب إلى قصيدة مصوّرة، حين يُعرض الفيلم الأخير “الريح المنحوتة”، الذي يرسم صورة شاعرية لتحولات الإنسان أمام العواصف الثقافية والاجتماعية، قبل أن يُسدل الستار في فندق ميركيور على نغمة وفاء، وإشراقة أمل.
في الناظور، لا تُعرض الأفلام فقط… بل تُستعاد الذاكرة ، وتُروى القصص التي لم تُكتب، ويُمنح الماضي فرصة للحديث من جديد.
لكن المفارقة المؤلمة، أن مدينة الضوء هذه، التي تستضيف كبار المخرجين وتُكرَّم على البساط الأحمر، ما تزال تبحث عن قاعة سينما واحدة تُطفأ فيها الأنوار من أجل الحلم.
في مدينةٍ تُكرِّم السينما دون أن تمتلك قاعة عرض، يبدو أن الناظور تُثبت من جديد أنها لا تحتاج جدرانًا لتُضيء… يكفيها أن في أبنائها شغفًا لا ينطفئ، وأن في ذاكرتها، رغم كل شيء، شاشة لا تُطفأ أبداً.
13/11/2025











