قدّمت مندوبية الحكومة الإسبانية في بيلباو، يوم الجمعة، البرنامج الجهوي الخاص بإقليم الباسك ضمن حملة “50 سنة من إسبانيا في الحرية” التي تروّج لها رئاسة الحكومة بقيادة بيدرو سانتشيث. إلا أن الوثيقة المعروضة فجّرت موجة من الانتقادات بعد تغييبها الكامل لأي إشارة لتنظيم “إيتا” الانفصالي، الذي دمغ تاريخ المنطقة بسنوات من العنف الدموي، تاركًا وراءه مئات الضحايا وندوبًا مجتمعية لا تزال حاضرة بقوة إلى اليوم.
فالبرنامج، الذي يُفترض أن يقدم قراءة موضوعية لخمسين عامًا من “التحول الديمقراطي”، اختار بطريقة لافتة القفز على واحدة من أهم المحطات وأكثرها حساسية في تاريخ إسبانيا المعاصر. لا ذكر للضحايا، ولا تقدير لمجهودات قوات الأمن، ولا اعتراف بتضحيات المجتمع المدني الذي واجه لعقود رصاص التنظيم الانفصالي. وهذا التجاهل، في نظر كثيرين، لا يمكن اعتباره مجرد سهو تقني، بل قرار سياسي واعٍ يخدم حسابات ظرفية مرتبطة بالتوازنات الداخلية لحكومة سانتشيث وتحالفاته الهشة.
ويأتي هذا المشهد في سياق سياسي يعرف صعودًا لافتًا للأطروحات الانفصالية داخل إقليم الباسك، واستعادة بعض الفصائل الراديكالية لخطاب تاريخي ملتبس يسعى إلى إعادة تأويل مرحلة العنف المسلح بعبارات “نضالية” تفتقر إلى أدنى احترام لحقائق التاريخ. وهنا يبرز السؤال الحرج: كيف يمكن لحكومة تدّعي الدفاع عن الديمقراطية أن تُسوّق لذكرى نصف قرن من “الحرية” بينما تتجاهل إحدى أكبر الهجمات على هذه الحرية نفسها؟
من جهة أخرى، يسلّط هذا الجدل الضوء على التناقضات البنيوية في الخطاب الرسمي الإسباني. فمدريد، التي ترفع شعار “الذاكرة الديمقراطية” عندما يخدم السياق الداخلي، لا تتردد في اعتماد خطاب أمني صارم بل ومبالغ فيه حين يتعلق الأمر بالضفة الجنوبية، سواء في ملف الهجرة أو القضايا الأمنية أو العلاقات مع المغرب. لكن عندما تُطرح أمامها ملفات تاريخية داخلية ذات حساسية سياسية، نجدها تتبنى خطابًا مراوغًا، انتقائيًا، وأحيانًا متواطئًا مع السرديات الانفصالية.
وتُظهر هذه الواقعة مجددًا الفارق الكبير بين مؤسسات دولة تدبّر ملفات الذاكرة الوطنية بروح المسؤولية والوضوح، ودولة أخرى ما زالت سجينة حسابات ائتلافات حزبية ضيقة، تُضحّي أحيانًا بالثوابت الوطنية على مذبح التوازنات السياسية الآنية. فبينما يعد المغرب اليوم نموذجًا في بناء مصالحة وطنية حقيقية، تظل إسبانيا غارقة في الانتقائية التاريخية، عاجزة عن تقديم سرد موحّد لتاريخها الحديث.
ختامًا، فإن تجاهل إرث “إيتا” داخل حملة حكومية رسمية ليس مجرد “سقطة” إعلامية، بل انحراف خطير عن قراءة موضوعية للتاريخ، ويكشف عن أزمة عميقة في التعاطي مع الذاكرة الجماعية في إسبانيا. أما في الباسك، فمن الواضح أن جدل الذاكرة سيستمر، خصوصًا مع تزايد أصوات الضحايا والجمعيات المدنية التي ترى في هذه الخطوة محاولة لتبييض صفحة أكثر التنظيمات دموية في تاريخ إسبانيا المعاصر.
15/11/2025











