في زمن تتزاحم فيه الخطابات حول الهوية والاندماج، تبزغ من قلب العاصمة الفرنسية باريس قصة إنسانية مضيئة، بطلتها مغربية بسيطة تحمل في ملامحها وتصرّفها جوهر تمغربيت كما يجب أن تكون. إنها زينة ألماز، التي استطاعت بعمل تطوعي خالص أن تجعل من طبق الكسكس المغربي رسالة حضارية تتجاوز الجغرافيا والحدود.
ثلاث مرات في الأسبوع، تقف زينة في ساحة عمومية باريسية محاطة بالمارة والفضوليين، لتعدّ الكسكس المغربي الأصيل بلمستها الخاصة. لا إعلان، لا دعم، ولا رعاية… فقط قدر كبير يفيض بالبخور والبهارات المغربية، وابتسامة تجمع حولها الفرنسيين والسياح والمغاربة على حد سواء.
ومع كل طبق تقدمه، كانت تقدّم في الحقيقة درسًا في الكرم المغربي الذي لا ينتظر مقابلاً. مبادرة دفعت وسائل إعلام فرنسية لإنجاز روبورتاجات عنها، مُشيدة بنموذج مغربي يقدّم صورة حضارية ناصعة عن الجالية المغربية وعن ثقافة بلد تحوّل الطعام فيه إلى فعل محبة وتواصل.
ترحّلت زينة ألماز إلى فرنسا قبل 15 عامًا. تعمل اليوم كمنظفة، مهنة تختزن الكثير من التعب لكنها لا تُغيّب عنها الابتسامة ولا تحجب عنها نور إنسانيتها. ورغم تواضع دخلها، فهي تتحمّل تكلفة الوجبة من جيبها الخاص، والتي تصل إلى نحو 60 يورو لأربعين شخصًا.
بهذه المبادرة، تُثبت زينة أن الهوية ليست نصوصًا تُروى، بل مواقف تُعاش. وأن المغربي، أينما حلّ وارتحل، يحمل معه بذور الخير التي تربّى عليها في الدوار، والمدينة، والريف، والجنوب.
ما تقوم به زينة ليس مجرد عمل خيري عابر؛ إنه شكل راقٍ من الدبلوماسية الشعبية التي تعزز صورة المغرب بعيدًا عن الرسميات. فبين كل طبق وآخر، تُعرّف بتراث مغربي عريق، وتقدّم للعالم نموذجًا حيًا عن قدرة المواطن المغربي على الاندماج الإيجابي والأنبل، مع الحفاظ على جذوره وثقافته.
في عالم يزداد فيه الانغلاق وخوف الآخر، تأتي مبادرة زينة لتقول للعالم بصوت هادئ:
المغاربة لا يعبرون الحدود وحدهم… بل يعبر معهم كرمهم وتسامحهم وثقافتهم.
قصة زينة ألماز ليست مجرد حكاية مهاجرة في باريس، بل مرآة تعكس معدن المغاربة حين يغتربون؛ معدن يلمع كلما لامسته القيم التي تربّوا عليها.
إنها سيدة بسيطة نجحت، بلا ضجيج ولا ادعاء، في تقديم صورة راقية عن المغرب، وفي تحويل ساحة باريسية إلى مساحة للأنس والتعايش، تُقدَّم فيها الهوية المغربية بنكهتها الحقيقية: كرَم، حب، وانفتاح.
وهكذا تثبت زينة أن تمغربيت ليست شعارًا يُرفع… بل ممارسة يومية تُنثر في الطرقات كعطرٍ طيبٍ يبقى أثره طويلًا.












