في إضافة نوعية للمكتبة التاريخية المغربية، أصدر الأستاذ الباحث في التاريخ الأمازيغي محمد مهدي علوش، عامل إقليم الناظور السابق ، مؤلفاً جديداً يحمل عنوان “الريف والمخزن على عهد العلويين”، وهو كتاب يُعدّ ثمرة سنوات من التنقيب المضني في الوثائق والأرشيفات، ومجهود فكري يسعى إلى إعادة قراءة مرحلة مفصلية من تاريخ شمال المغرب برؤية علمية دقيقة وبمنهجية تحليلية متينة.
الكتاب الجديد لا يكتفي بسرد الوقائع التاريخية، بل يخترق الطبقات العميقة للذاكرة الريفية، متأملاً التفاعلات السياسية والاجتماعية بين القبائل والمخزن، ومسلطاً الضوء على اللحظات التي صاغت العلاقة المركّبة بين الطرفين، سواء في مراحل التوتر والصدام أو خلال فترات التعاون والتوافق.
ويُبرز علوش، عبر فصول الكتاب، كيف كانت منطقة الريف فضاءً لمعادلات دقيقة بين سلطة المركز وحركية القبائل، وكيف لعبت الظروف الجغرافية والعسكرية والاقتصادية دوراً مركزياً في بناء تلك العلاقة.
ويكشف المؤلف أيضاً عن جوانب ظلّت بعيدة عن الضوء في الكثير من الدراسات السابقة، خاصة ما يتعلق ببروز الزعامات المحلية وأدوارها في تثبيت الأمن أو في قيادة المقاومة ضد الأطماع الأجنبية. ويخصص الكاتب حيزاً معتبراً لشخصيات مؤثرة في تاريخ المنطقة ، والداعمين للدولة العلوية لببسط نفوذها على مناطق شمال المغرب.
ولا يقف الكتاب عند حدود السرد التاريخي، بل يقدم قراءة تأويلية في الاجتماع السياسي للريف، مبرزاً تحولات البنية القبلية، وأنماط التدبير المحلي، وكيفية تموضع القبائل ضمن النظام المخزني، وتأثير ذلك على المشهد السياسي العام في البلاد.
ويأتي هذا العمل ليعيد الاعتبار لدور الريف كفاعل رئيسي في تاريخ المغرب، ويُذكّر بمساهماته في مقاومة التدخلات الأجنبية خلال القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين، خاصة تلك التي مهدت لظهور قيادات ستطبع المنطقة بطابعها الخاص.
ويمثل هذا الإصدار امتداداً لمسار بحثي طويل للأستاذ محمد علوش، الذي راكم تجربة غنية في الصحافة والدراسات التاريخية، ونشر عشرات المقالات والمؤلفات التي عالجت الذاكرة الريفية والتراث المحلي، في مقدمها: “إسلام الفلاحين الريفيين” و”من أتون القبيلة إلى الوعي بالهوية”، وغيرها من الأبحاث التي رسخت مكانته كأحد أبرز الأصوات الأكاديمية المهتمة بتاريخ الريف وهويته المتعددة.
ويُنتظر أن يفتح كتاب “الريف والمخزن على عهد العلويين” آفاقاً جديدة للباحثين والمهتمين بتاريخ المغرب الحديث، وأن يسهم في تفكيك الروايات السائدة حول علاقة الريف بالمخزن، مستنداً إلى وثائق نادرة ومعطيات ميدانية وشهادات تاريخية غنية، بما يعمّق الفهم ويثري النقاش العلمي حول هذه المرحلة الحساسة من الذاكرة الوطنية.
